النفاق السُّوداني في ابشع صوره.. متى أصبح الجيش السودان جيشاً للكيزان!!
عبدالغني بريش فيوف
هُناك لحظات يجبُ على المرء أن يختار ما بين أن يحيى حياتهُ بالطريقة التي يُريدها كُليا بحُرية تامة ، أو ما بين أن يُجر ليحيى حياة ضحلة كاذبة تتطلب الكثير من النفاق والمُداهنة للاستمرار. – أوسكار وايلد
عزيزي القارئ..
لا يستطيع أي متابع للشأن السياسي السوداني ان ينكر تغلغل الإسلاميين الذين جاءوا الى السلطة بإنقلاب عام 1989، داخل مؤسسة الجيش السوداني، حتى أصبحت هذه المؤسسة تعبر عموماً عن الحالة العُصابية الاستبدادية للإسلاميين.
اليوم التالي لإنقلاب 30 يونيو 1989، اتضح جلياً للشعوب السودانية ان برنامج الإسلاميين المتمثل في مشروعهم المسماة (بالحضاري)، هو الاستمرار في الحرب ضد المطالبين بحقوقهم في جنوب السودان وجبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور ولخ، تارة باسم الدين وتارةً أخرى باسم العروبة.
تحت عنوان (َاطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ)، بدأ الجيش السوداني تحت قيادة الإسلاميين، حربه الدينية على حركات النضال الجنوب سوداني وعلى الجنوبيين عموما، قُتل فيها ما يتجاوز ثلاث مليون جنوبي حسب احصائيات الأمم المتحدة، وما يقارب على ست مليون نازح ولاجئ في الدول البعيدة والقريبة.
اما مناطق جبال النوبة، فهي الأخرى لم تنجو من الحرب الدينية تحت ذات العنوان (َاطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ). ففي هذه الحرب التي استمرت حتى التوقيع على اتفاق نيفاشا للسلام في 2005، واندلعت مرة أخرى في 2011 ومشتعلة حتى اليوم. فقد شعب النوبة ما لا يقل عن خمسين ألف من خيرة شبابه، وما لا يقل عن مليون نازح ولاجئ.
وفي دارفور غرب السودان، اعلن الجيش السوداني بقيادته الإسلامية، الحرب في 1999 على حركات النضال والكفاح المسلح المطالبة بحقوقها المشروعة، لكن تحت عنوان الحفاظ على عُروبة الاقليم من دنس الأفريقية والزُرقة.
باسم الحفاظ على عروبة دارفور، تم تهجير عشرات الملايين من القبائل ذات الأصول الأفريقية كقبيلة (الفور والزغاوة والمساليت والتاما والبرقد والفلاتة والقمر والتُرجم والداجو والبرقو والميدوب وولخ). حيث اتّجهت وتوزّعت هذه الشعوب المهجّرة باتجاه دولة تشاد وجنوب السودان والنيجر ويوغندا وكينيا ومصر ومنها الى دول ما وراء المحيطات والبحار، واتخذتها ملجأً علّها تجد الأمان في أرض جديدة تقيها الاضطهاد والتعذيب الناجمين عن التعصّب العروبي-السلطوي.
هذه الحروب اللعينة التي اشعلها منذ 1989، المؤتمر الوطني المحلول الذي حول الجيش السوداني كما قلنا، الى مؤسسة تتبع له وتأتمر بتوجيهاته في حروبه الدينية والهوياتية، لم نسمع وللأسف صوتا واحدا من النخب السودانية، يطلق على هذا الجيش اسم جيش الكيزان والإسلاميين.
نعم، كل تلك الحروب التي قادها الجيش السوداني تحت حكم الإسلاميين لقرابة الثلاثين عام، لم تخرج لنا صوتا واحدا من النخب، تتهمه بتنفيذ اجندة (الإسلاميين)، وتسميه بجيش (الكيزان)، بل كانت هذه الأصوات النخبوية العنصرية، تدافع وبشدة عن هذا الجيش وهو يقتل شعوب جنوب السودان وجبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور، حتى وصل عدد القتلى ما لا يقل عن عشرة مليون شخص، وتشريد ملايين آخرين الى دول المهجر.
كانوا يدافعون عنه، بمنطق انه يدافع عن وحدة السودان وعروبته واسلاميته من دنس الجنوبيين والنوبة والدارفوريين وولخ، وكان لا يفرق عندهم من يحارب هؤلاء المتمردين، اسلاميين كانوا أو جيش من الأبالسة.
عزيزي القارئ..
إذا كانت دراسات سيكولوجية الشعوب قد ركزت في أبعادها على خصائص التجمعات البشرية ومرتسماتها على سلوك أعضائها مؤكدة على وجود اختلاف بين ثقافات الشعوب وإن كل واحدة منها تعكس روح الشعب التي تقوم على اللغة والتأريخ والعادات والتقاليد ولخ، فإن الحالة السودانية اثبتت بجلاء ووضوح، غياب وفقدان الشعور الوجداني بين هذه الشعوب.
إن الإحساس بالانتماء للسودان كوطن الذي يفترض أن يعتمل في وجدان كل سوداني على امتداد خريطة السودان -شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، غائب تماما ولذلك لم يبرز في الحروب التي قامت ضد شعوب المناطق المذكورة في الأعلى، وهذا ما يجعلنا نقر بوهمية الوحدة الشعورية بين السودانيين.
بعد اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، بين الجيش وميليشيا الجنجويد، ووصول نيرانها الى مناطق الخرطوم والجزيرة والنيل الأبيض وسنار واجزاء من السودان الشمالي. خرجت إلينا النخب التي كانت صامتة صمت أهل القبور تجاه الإبادة والتطهير العرقي وجرائم الحرب في جنوب السودان وجبال النوبة ودارفور، خرجت لتصف هذا الجيش بجيش (الكيزان والفلول).. فما الذي جدّ؟
الجديد في الأمر عزيزي القارئ، هو قيام الجيش السوداني بهجمات عشوائية، ادت إلى قتل أو إصابة مدنيين، أو تدمير أعيان مدنية أو إلحاق أضرار بها وولخ. هذه الأفعال والأعمال العسكرية هي التي ازعجت النخب الشمالية وكُتابهم، ليصفوا الجيش السوداني بجيش الفلول والكيزان.
انه غياب الوجدان وغياب الشعور بالآخر من نفس الوطن، أي الجانب المعنوي أو السيكولوجي القيمي، الذي يرتبط بالمواطنين ووحدتهم وتماسكهم، وتعظيم الروابط التي تشكل نسيج المجتمع وقوام اللحمة بين عناصره ومكوناته.
ادى غياب الوحدة الوجدانية بين (السّوادنة) الى غياب الوحدة الوطنية وما تمثله من علاقات تماسك وترابط بين مختلف عناصر الدولة والمجتمع، إقليميا وقيمياً واجتماعياً وثقافياً ولخ، وهي علاقات تجمع في إطارها بين ماضي الدولة وانجازاتها السابقة، وبين حاضرها وما تشهده من نهضة وتطور، ومستقبلها وما يمثله من رؤى واستشرافات. وادى غياب الوحدة الوطنية الى تقويض السلم الأهلي وبالتالي تراجع عملية التنمية السياسية، بما ترتب عليه من تهديد لوجود الدولة وبقائها وهو ما نشهده اليوم في السودان.
الجيش الذي يصفونه اليوم بجيش الفلول والكيزان، هو ذات الجيش الذي وقفوا معه، يشجعونه ولأكثر من ثلاثين عاما لإبادة شعوباً سودانية بعينها. انه غياب الوجدان الوطني، واقلها، النفاق السياسي السوداني في ابشع صوره.
إذا كان الجيش الذي يقاتل مليشيا الجنجويد اليوم، هو جيش الفلول والكيزان كما يصفونه، فإن هؤلاء جميعا، انما هم الكيزان والفلول انفسهم، لكنهم يحاولون الهروب الى الأمام للتنصل من مسؤوليتهم السياسية والأخلاقية، كونهم شركاء في جرائم الجيش ضد مواطنيه لعقود وعقود.
انه غياب الوجدان الوطني والنفاق السياسي واستمرار ازدواجية المعايير من قبل النخب السياسية الذي أثقل كاهل الوطن السوداني وجره إلى الانهيار الذي نشهده اليوم.
دورهم في النفاق وقلب الحقائق كالذي يريد أن يغطى عين الشمس بغربال، فلا يهمهم ما يحدث للوطن وإلى أين يسير، انما يهمهم مصالحهم الشخصية، رغم إنهم يعلمون أكثر من غيرهم بحقيقة ما يعانيه البلاد من انتكاسات وويلات، لكن الخوف على مصالحكم الشخصية يمنعهم من قول الحق.