اتفاقية جوبا للسلام في السودان… «يوم الحساب»
الخرطوم: أحمد يونس
تدهورت الأوضاع الأمنية في إقليم دارفور السوداني بصورة لافتة خلال الأشهر الماضية، رغم «اتفاقية السلام» مع الحركات المسلحة التي خاضت حرباً ضد الحكومة المركزية تحت مزاعم «التهميش» الاقتصادي والتنموي والسياسي الذي يمارسه «المركز» ضد الإقليم، وأدت إلى مقتل نحو 900 شخص وتشريد 300 ألف خلال العام الحالي، آخرهم 10 قتلوا خلال الأسبوع الماضي، إضافة إلى نزوح أكثر من 30 ألف في جنوب دارفور.
ويرى مواطنون ونشطاء سياسيون، أن موقّعي اتفاقية السلام مع الحكومة تخلوا عن الإقليم ومطالبه، واكتفوا بمكاسب سلطوية ومادية في الخرطوم، وبذلك انتقل الصراع من شكله القديم بين القوات الحكومية وقوات الحركات المسلحة، إلى صراع لأحلاف جديدة على الأرض والموارد، أسهم «متمردو» دارفور السابقون في تفاقمه.
وشهد إقليم دارفور حرباً بين القوات الحكومية وحركات مسلحة استمرت منذ 2003 وحتى 2020، قُتل خلالها أكثر من 300 ألف شخص، وأدت إلى تشريد ونزوح أكثر من مليوني مواطن داخلياً وخارجياً، بحسب تقارير صادرة عن الأمم المتحدة، وواجهها المجتمع الدولي بتخصيص بعثة دولية لحفظ السلام تعدّ من أكبر مهمات حفظ السلام حول العالم.
وأدى هذا النزاع إلى توجيه «المحكمة الجنائية الدولية» اتهامات ضد الرئيس المعزول عمر البشير وثلاثة من كبار معاونيه، بارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم إبادة جماعية، لكن السلطات في الخرطوم لا تزال ترفض تسليم البشير ومعاونيه إلى المحكمة الكائنة في لاهاي.
وعملت الثورة السودانية التي أسقطت نظام الإسلامويين بقيادة البشير على إزالة الاحتقانات ذات الطابع الإثني أو الجهوي، وكان هتاف الثوار الشهير «يا عنصري مغرور، كل البلاد دافور»، دليل عمل وطريق خلاص استنّه الثوار لحلحلة النزاعات المزمنة في السودان.
بيد أن حصاد الحقل كان أقل من طموحهم، ولم يطابق حساب البيدر، رغم نجاح الحكومة الانتقالية، بقيادة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، في توقيع اتفاقية «سلام جوبا».
وتضمنت اتفاقية سلام السودان في «جوبا»، الموقّعة في 3 أكتوبر (تشرين الأول) 2020، ثمانية «بروتوكولات»، شملت إعادة تنظيم وتشكيل القوات الأمنية والجيش بما يمكّن من دمج أفراد الميليشيات في القوات الحكومية، وتطبيق العدالة الانتقالية، والتعويضات وجبر الضرر، وتنمية قطاع الرحّل والبدو، وإعادة توزيع الثروة والسلطة، وحل قضية النازحين واللاجئين، وإعادة توزيع الأراضي.
لكن، رغم مرور أكثر من سنتين على توقيع الاتفاقية، لم ينفذ منها إلا بروتوكول تقاسم السلطة بين المتقاتلين السابقين والحكومة، وحصل بموجبه قادة هذه الحركات على مناصب كبيرة في السلطة، في مجلسي السيادة والوزراء، وظلوا يدافعون عن مناصبهم تلك رغم حل الحكومة نتيجة الانقلاب واستقالة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك؛ ما جعلهم في نظر الكثيرين «جزءاً من الانقلاب».
وقال الناطق الرسمي باسم «منسقية النازحين واللاجئين» آدم رجال لـ«الشرق الأوسط»، إن اتفاقية جوبا، وعوضاً عن حل مشكلة دارفور، أدت إلى تأزيم الوضع؛ لأنها لم تخاطب «أصحاب المصلحة والضحايا، بل خاطبت مصالح من يريدون السلطة والمال». وأضاف «لم يكن القتل والتشريد والإبادة الجماعية قضيتهم في الأصل».
وندد رجال بتمسك قادة الحركات المسلحة بمناصبهم في السلطة ورفضِ أي تعديلات على الاتفاقية قد تفقدهم تلك المناصب، وقال «لم يكونوا يريدون تحقيق تطلعات الشعب، بل تطلعاتهم الفردية، وأن يكون الواحد منهم وزير مالية أو رئيس وزراء. لذلك تحولت الاتفاقية لتقاسم مناصب».
وأرجع رجال بقاء قادة الحركات المسلحة في الخرطوم إلى خوفهم من مواجهة من أسماهم «أصحاب المصلحة في المعسكرات»، وقال «لقد وقّعوا باعتبارهم ممثلين لأصحاب المصلحة، لكنهم لم يترجموا الاتفاقات إلى عمل»، وأضاف «هم تجاهلوا حتى موضوع العدالة، وتخلوا عن حقوق الضحايا وتوفير الأمن ونزع السلاح وطرد المستوطنين الجدد من أراضي النازحين وتعويضهم فردياً وجماعياً ليتمكنوا من العودة إلى مناطقهم».
وأكد رجال، أن قادة الحركات تخلوا عن مطلب أهل دارفور الرئيس المتمثل بتسليم المتهمين بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب إلى المحكمة الجنائية الدولية، مكتفين بالسلطة والمناصب التي حصلوا عليها. لكن الأكاديمي والباحث في الشأن الدارفوري عبد الله آدم خاطر، رأى، أن اتفاقية جوبا لقيت الترحيب في البداية، وكان السلام رغبة شعبية عارمة بعد الثورة؛ لذلك علّق الناس آمالاً عريضة على استكمال هذا الشعور بالسلام. لكنه استطرد قائلاً «للأسف، نواقص الاتفاقية، خاصة في بروتوكول الترتيبات الأمنية وعدم إعادة تدريب المجموعات المنتمية للحركات ونقص التمويل، خلقت نوعاً جديداً من المشكلات».
وأوضح خاطر لـ«الشرق الأوسط»، أن ما حدث في الإقليم، خاصة في مناطق «جبل مون»، و«كريندنق»، و«كرينك» في المرحلة الأولى، والصراع الجاري الآن في منطقة «بليل» في جنوب دارفور، والذي أدى إلى مقتل ونزوح الآلاف، يعدّ أحد تجليات هذه المشكلات التي خلقها عدم الالتزام بالاتفاقية.
وحذر خاطر من تفاقم النزاع بسبب «الوافدين الجدد» الذين يبحثون عن أرض في دارفور وبعض كردفان، وقال «ما لم تأتِ حكومة حقيقية، يمكن أن تتفاقم هذه المشكلات».
وانتقد خاطر ذريعة الحركات بعدم تعاون الحكومة الاتحادية معها، وقال، إن هذه الحركات «لم توسع دائرة التواصل مع المواطنين، ولم تكسب الرأي العام ولم تهتم بالسلام، بسبب مشاركتها أو تواطؤها مع الانقلاب الذي أرجع عقارب الساعة إلى الوراء». وأضاف «لهذا السبب؛ يشعر الشعب بأنها خذلته بدل أن تستثمر في السلام، واختارت البعد عن المواطنين وقضاياهم». وتابع «على الحكومة المزمعة وحركات سلام جوبا استعادة التعاون من أجل تعزيز السلام وتحقيق تطلعات المواطنين».
من جهته، وصف الناشط السياسي منتصر إبراهيم اتفاقية سلام جوبا بأنها «خطر على دارفور»، وقال، إنها خلقت نوعاً جديداً من الاصطفاف أخلّ بالتوازن الاجتماعي بإضافة «منتصرين جدد». وأضاف «دافور كانت في حاجة إلى مصالحة شاملة، وليس إلى خلق توازنات جديدة، تتجلى في صراع تحالفات جديدة بين مكونات لم تكن جزءاً من الصراع».
وبحسب إبراهيم، فإن «مناطق ومجموعات جديدة لم تكن ضمن دائرة الصراع أصبحت جزءاً منه، ونشأت تحالفات جديدة بين مكونات كانت متحاربة في السابق»، وأضاف «حركة العدل والمساواة كانت الأوسع تمثيلاً، لكنها انحسرت وانحصرت في مكون اجتماعي معين». وأوضح إبراهيم، أن «الشكل الجديد الذي ظهرت (الحركة) به يعيد للأذهان خطاب النظام السابق الذي أنكره الشعب، وهو أن الحرب بين مكونات الإقليم هي حرب لصالح مكونات محددة».
وحذر إبراهيم من أن يؤدي انكفاء «حركة العدل والمساواة» والحركات الأخرى على مكوناتها الاجتماعية إلى النظر إليها على أنها مجرد حركة تخص مجموعة محددة، معتبراً أن «هذه المسألة سينتج عنها نوع جديد من الأخلال بالتطلعات المشتركة لأبناء الإقليم والأقاليم التي كانت جزءاً من العدل والمساواة».