حول الأزمة الوطنيَّة في السُّودان (1 من 4)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
الإنقاذ.. أسوأ تجلِّيات الحكم في السُّودان
لا ريب في أنَّ نظام “الإنقاذ” منذ استيلائه على السلطة في 30 حزيران (يونيو) 1989م قد احتمل كثراً من التناقضات الداخليَّة، وأفكاراً طهرانيَّة في غاية التزمت، حيث لم تكن هذه الأفكار تمت إلى الواقع السُّوداني بصلة إلا عند القليل من شواذ الآفاق، وأصحاب الأحقاد، وأمراء البغضاء والضغائن الدفينة ضد المجتمع. وقد وصلت الرعونة بأحد أشياعهم من الطلاب حتى صفع أستاذه بجامعة الخرطوم. ذلك سلوك شائن لم يعهده المجتمع السُّوداني من قبل في ضرب الصغير للكبير، وبخاصة حين يكون هذا الكبير أستاذه، الذي كاد أن يكون رسولاً. هذا سلوك بربري لم يحدث إلا في الصين من فوضى سُمِّيت بالثورة الثقافيَّة، حين أخذ الأيفاع والمراهقون يتهجَّمون ضد أساتذة الجامعات وضد فلاسفة الماركسيَّة من أمثال تيوشاوشي (1966-1967م).
ففي البدء تصرف قادة “الإنقاذ” تصرف الرعديد الذي لم يكد يطمئن على عرشه الذي انتزعه انتزاعاً في ليلة ليلاء وعلى ظهر دبابة، ومن ثمَّ استخدم الوحشيَّة المفرطة في اعتقال وتعذيب الخصوم السياسيين، حتى من شُبِّه لهم بأنَّهم يعادونهم سياسيَّاً، وممارسة القتل خارج نطاق القضاء، والاعتناف في الحرب الأهليَّة ضد المدنيين العزل في جنوب السُّودان وجبال النُّوبة وإقليم الفونج، واختلاق حروب جديدة في دارفور، وتجويع الشعب السُّوداني تحت شعارات خرقاء مثل “نأكل مما نزرع، ونلبس مما نصنع”، وأضاف إليها المتفكهون في مجالس المدينة “ونضحك مما نسمع”، ثم قاموا باستعداء المجتمع الإقليمي والدولي. وفي الحق، قد صدق قائل من قال لقد “استعان نظام الإنقاذ بالهتيفة والغوغاء والفاقد التربوي من حوله”. برغم من كل ما حمله نظامهم الطغياني إلا أنَّهم أسموه “ثورة الإنقاذ الوطني”، لئلا نقول كما قال داؤود عبد اللطيف عن انقلاب الفريق إبراهيم عبود العام 1958م حينما نعته مَنْ نعتوه بثورة “دي مش ثورة إلا إذا كانت كلمة ثورة تعني مؤنث ثور.” تلك النزعة الجامحة كانت انقلاباً عسكريَّاً، ولم تكن ثورة في شيء. الثورة هي الوثبة التي تدفع المجتمع إلى الأمام، فتبدَّل من أوضاعه التي لم تعد تتلاءم وتطوُّر العلاقات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة. فإذا كانت حركة تهدف إلى تجميد أوضاع المجتمع، أو الرجوع به القَهْقَرى، فهي أولى أن تُدعى فتنة أو ردَّة، وهذا ما كان من أمر “الإنقاذ”.
وفي الشعارات إيَّاها غلو ما بعده غلو؛ فالقوميَّة لها عدَّة مظاهر، هناك ما هو جيِّد وآخر ما هو سيء. ولعلَّ الانقسام الكبير يكمن في المظاهر المتعلِّقة بالثقافة، والأخرى التي لها علاقة بالاقتصاد والسياسة. فمن الناحية الثقافيَّة هناك ثمة نقاشات قويَّة لصالح القوميَّة، أما فيما يختص بالرؤية السياسيَّة والاقتصاديَّة فإنَّ ممارسة القوميَّة لها مؤذية، وبخاصة حين تأتي هذه الممارسة بالصورة الصارخة التي شهدناها في عهد “الإنقاذ”. إذ أنَّ علاقة الدولة بالعالم الخارجي كالعلاقة بين الفرد والمجتمع، فلا يمكن تصوُّر الفرد كائناً مستقلاً بذاته عن المجتمع، وأنَّ في قدرته أن يعيش هكذا كما كان يعيش حيوان السيكلوبس، وهو حيوان خرافي تقول الأساطير اليونانيَّة أنَّه كان يعيش في ليبيا منعزلاً عن العالم.
ومع ذلك، قد ينبري إليك أحدٌ من أهل الإنقاذ في عهد التيه والطغيان من يتشدَّق قولاً بأنَّنا أصبحنا دولة قويَّة ذات استقلاليَّة محسودة، وسيادة وطنيَّة، وبات العالم يرتعب منا لأنَّنا نملك قرارنا بأنفسنا. تلك هي نواقص ذاتيَّة تتعارض مع السياسة الواقعيَّة (Realpolitik)، والسياسة الواقعيَّة هي منظومة السياسات أو المبادئ المبنية على النواحي العمليَّة أكثر منها على الاعتبارات الأخلاقيَّة والفكريَّة. إذ يتجلَّى أمر السياسة الواقعيَّة بشكل أوضح في كتاب مستشار رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، أي الكتاب الذي حمل اسم العبارة ذاته (Realpolitik). فقد ذكر المستشار جون بيو أنَّ السياسة الواقعيَّة تقوم على ثمة أربعة مبادئ مرتبطة مع بعضها بعضاً، ألا وهي: السياسة قانون القوي؛ الدول تصبح قويَّة حين يظل مواطنوها يرفلون في سلام ووئام، وينعمون بحياة رغيدة؛ الأفكار تهمُّ لأنَّ الشعب يؤمن بها، وليس لأنَّها صائبة؛ وأخيراً تُعتبر روح العصر (Zeitgeist) العامل الوحيد والأهم في تحديد مسار سياسة الأمة. إزاء ذلك لم يستطع السُّودان أن يكون فاعلاً عالميَّاً، ولا حاسماً ذا ثقة في الحين الذي فيه ظلَّ دولة منقسمة على نفسها، وغير متقدِّم اقتصاديَّاً، وعرضة للأزمات العالميَّة، ثمَّ إنَّه ليعج بمشكلات الحكم غير الرشيد، والكوارث الصحيَّة والبيئيَّة، وانعدام الأمن وغيرها من الأزمات السياسيَّة التي لا تكاد تُحصى ولا تُستقصى.
برغم من أنَّ الشجعان من أبناء الشعب السُّوداني كانوا يدركون سلفاً بأنَّ الحكومة لا تقيم وزناً للأفكار الفرديَّة، ولا تهبها أدنى اعتبار، ومع ذلك اختاروا المجاهدة والمجاهرة باللفظ، ولسان حالهم يقول لا تصمت عن قول الحق مهما كان مراً؛ فعندما تضع لجاماً في فمك سيضعون سرجاً على ظهرك. مهما يكن من شأن، فبعد أن سجن أهل “الإنقاذ” من سجنوا، وقتلوا من قتلوا، وهرب من استطاع إلى الهروب سبيلاً إلى النجاة من هؤلاء الفئة الباغية، جاءوا بجهلة يفتون في الدين، وليس عندهم من الرسوخ في العلم ما يهديهم إلى الصواب، أو يقف بهم دون اقتحام حمى المشكلات، وأضحى النَّاس يلتمسون العلم عند الأصاغر، والتماس العلم عند الأصاغر يكون بترؤسهم وتصدُّرهم للفتيا من جهة، وذهاب العلماء الراسخين من جهة أخرى. كان هذا ما شهدناه عند فقهاء السلطان في السُّودان (الخرطوم والأُبيِّض)، الذين ظلُّوا يكذبون ويخدعون، ويمكرون ويحتالون، وينعمون بذلك كله بلذات الحياة. وما شهدنا إلا ما رأينا، حتى لا ينبري أحد ويقول لقد أصليناهم من النقد واللوم ناراً. لقد جاء في صحيح البخاري: “إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً اتَّخذ النَّاس رؤوساً جُهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلُّوا وأضلُّوا.” رضي الله على الإمام علي بن أبي طالب وهو القائل:
ما الفخر إلا لأهلِ العلمِ إنَّهُمُ على الهدى لمن استهدى أدِلَّاءُ
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلمِ أعـــداء
ففز بعلمٍ تعيش حيَّاً به أبداً النَّاسُ موتى وأهلُ العلمِ أحـياءُ
هؤلاء الخبراء الإستراتيجيُّون، الذين طفقوا يحلِّلون الواقع وفق ما يريده الحاكم، ويفتون في كل شيء، قد أسموا أنفسهم مفكِّرين، وأعطوا لأنفسهم الحق في تقدير الأشياء والحكم عليها، والفلسفة في خصائها ونتائجها، وما هم بمفكِّرين ولا يحزنون! بل هم دجاجلة يوهمون النَّاس بقدراتهم على معالجة أخطر الأمراض السياسيَّة في السُّودان.
ما أن استشعر بعض أهل النظام نفسه الخطر الذي يحدق بهم، حتى أخذوا يتململون ويلومون بعضهم بعضاً. ومن هنا أخذت الاغتيالات والانشقاقات تأخذ مجراها وسطهم، حيث انتهت بالانشطار العظيم وسط الحركة الإسلاميَّة نفسها العام 1999م – أي بعد العشريَّة الأولى من نظامهم – إلى تنظيمين: المؤتمر الوطني الحاكم من جهة، والمؤتمر الشعبي المعارض من جهة أخرى. ألم تر كيف ظلَّ عرَّاب النظام الدكتور حسن عبد الله الترابي مبتهجاً عزيزاً في مبتدأ الانقلاب الإخواني، ولئن أسموه ثورة الإنقاذ الوطني، حيث لم يكن الأمر ثورة ولا إنقاذاً وطنيَّاً في شيء. ومع ذلك، كان الترابي نشطاً خطيباً في الجماهير لتسويق الانقلاب في النَّاس، ثمَّ كان فرحاً جزلاً بمشروعه الحضاري الذي طالما أنفق جل عمره ليرى ما رأى وما رآه النَّاس، حتى أخذ يتفوَّه للعامة والملأ من حوله أنَّه في طول شبابه وعرضه لم يكن يحلم بأن يعيش ويرى الإسلام في السُّودان، لا على يد عمر بن الخطاب، ولا على يد عمر بن عبد العزيز، ولكن على يد عمر بن البشير؛ وفي ذلك غلواء لا مثيل له. وفي حديثه يومذاك كأنَّ أهل السُّودان لم يكونوا بمسلمين قبل انقلابهم ذاك الذي شرع يمجِّد له، حتى أخذته الغبطة بالإثم. كان الترابي ذكيَّاً جداً، لكنه يحمل في دماغه جرثومة غلطة الشاطر، كما ظهر جليَّاً في آخر سنواته في الحياة العامة، وذلك حين وضع الثقة في العسكرتاريا برغم من إسلامويَّتهم.