عن تفكّك مجال روسيا الحيوي وفنّ الحرب عند الغرب
عائشة البصري
من أهمّ صناعات واشنطن ما يسميه نعوم تشومسكي “صناعة التوافق” حول السرديات التي تبلورها وتنشرها لتبرير حروبها. ولمواجهة هذه المعضلة، شدّد المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، في كتابه “الأنسنية والنقد الديمقراطي”، على أن مهمة المثقف تكمن في مدى تحرّره من ضغوط السلطة والاستراتيجيات التي تنتهجها لتبسيط التاريخ، ومدى قدرته على تقديم سردياتٍ بديلةٍ ومنظورات مختلفة. فكلما استقرّ قرار البيت الأبيض ووزارة الدفاع (البنتاغون) على حرب ما، يصنعان توافقا دوليا حول أزمةٍ يرسمانها بالأبيض والأسود، ويضعانها في قالب صراع بين الغرب الخيّر والآخر الشرير، سواء كان الأخير يتحدّر من فيتنام، فنزويلا، العراق أو أفغانستان. اليوم يواجه المثقف سردية مماثلة تُقابل شيطنة روسيا بتبرئة أوكرانيا وشركائها وتقديم الحرب الدائرة في أوكرانيا أنها حرب قيمٍ بين الدكتاتورية والديمقراطية.
لا تكمن مشكلة هذه السردية في الشقّ الروسي، إذ لا يمكن الدفاع عن الرئيس فلاديمير بوتين ونظامه السّلطوي أو تبرير جريمة العدوان ضد دولة ذات سيادة، بل المشكلة في الشق الأورو- أميركي وسرديته أن مأساة أوكرانيا بدأت باجتياح روسيا جزيرة القرم وضمّها في أبريل/ نيسان 2014، وما ترتب عن ذلك من دعواتٍ انفصالية في منطقة الدونباس، وصولا إلى الغزو الروسي لأوكرانيا. وفي هذه الرواية، تبرئة للغرب من سلوكه السّلبي العدواني (passive aggressive) الذي يستفزّ الآخر، ويهاجمه، ويدفعه إلى العدوانية عبر شتى الأساليب، ثم يلقي عليه اللوم، كل اللّوم، حين يقوم بردّ فعل عدائي.
مارس الغرب، بقيادة واشنطن، هذا النوع من العنف الصامت في فضاءٍ تعتبره روسيا، منذ نهاية الحرب الباردة وحتى قبل وصول بوتين إلى السلطة، مجال نفوذها الحصري، والمتمثل في جميع أنحاء الاتحاد السوفييتي السابق. ظل هذا الموقف يشكّل أحد ثوابت السياسة الخارجية الروسية، سخّرت لضمانه كل السّبل، الناعمة والعسكرية، إذ أنشأت قواعد عسكرية في جمهوريات سابقة في القوقاز وآسيا الوسطى، وأسّست هياكل سياسية وأمنية وحرصت على قيادتها، وعلى حصولها على أفضلية في معاملاتها الاقتصادية مع بعض هذه الدول. كان تصرّف موسكو شبيها بما تقوم به واشنطن أو باريس وباقي القوى التي تتمتع بمقعد دائم في مجلس الأمن، وتمارس ديكتاتورية الفيتو. ولكن مشكلة روسيا أنها ظلت تتصرف بعد انهيار الاتحاد السوفييتي على أساس أنها قوة عظمى، وأن الحرب الباردة قد ولّت، بعد أن انخرطت فترة في تقارب سياسي واقتصادي مع الغرب، في وقتٍ لم تعد واشنطن تعترف بقوّتها، حتى وصفها الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، ساخرا بأنها “قوة إقليمية”، وسبقه بسنوات تصريح وزير الدفاع الأميركي، روبرت غيتس، في مخاطبته مجلس النواب يوم 7 فبراير/ شباط 2007، أن الولايات المتحدة ما زالت تعتبر الصين وروسيا خصمين محتملين، بالإضافة إلى إيران.
يواجه المثقف اليوم سردية شيطنة روسيا بتبرئة أوكرانيا وشركائها وتقديم الحرب الدائرة في أوكرانيا أنها حرب قيمٍ بين الدكتاتورية والديمقراطية
من أجل استمرار هيمنتها، تصنع واشنطن كعادتها أعداءها، وتهدّد أمنهم واستقرار بلدانهم، ثم تشن هجوماتها الاستباقية بدعوى أنها هي الضحية، أو يُحتمل أن تصبح ضحية. ظلّ الإعلام يردّد مزاعم واشنطن منذ التسعينيات، في وقتٍ كانت روسيا تتخوّف من المشروع الأورو- أميركي لإقامة دروع واقية مضادّة للصواريخ تطوّق البلاد وتحاصرها بحزام عسكري، بهدف الاستيلاء على احتياطها الطاقوي، واحتياط دول بحر قزوين عبر التهديد باللجوء إلى القوة.
في مواجهة روسيا، طبّقت واشنطن حكمة الجنرال الصيني سون تزو “فن الحرب الأسمى هو إخضاع العدو من دون قتال”، فمنذ انهيار الاتحاد السوفييتي، لم تتوقف أميركا وحلفاؤها الغربيون عن تقزيم حجم روسيا، من دون إطلاق رصاصة تجاهها. عملت على خلخلة ما تعتبره روسيا مجالها الحيوي، واختراقه وابتلاعه شيئا فشيئا في بطن الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو). لم يتوقف الأخير عن التوسّع العسكري في المنطقة والعالم، على الرغم من زوال المنظمة الخصم (حلف وارسو).
تحوّل هاجس المجال الحيوي لدى روسيا إلى خوف حقيقي من إمكانية تهديدٍ مباشر لأمنها، منذ شارك “الناتو” في تفكيك يوغوسلافيا، وأجرى أول تدخلاته العسكرية في البوسنة وفي يوغوسلافيا السابقة في التسعينيات، ثم توسّع شرقا وازدادت عضويته من 12 دولة في عام 1992 إلى 30 دولة حاليا، تضم عددا من الجمهوريات السوفييتية السابقة. وراح الحلف ينشر عناصر منظومات صاروخية جدّ متطورة، ويقيم قواعد عسكرية بجوار روسيا، وسبق توسّعه بكثير التوسّع الروسي، بل واستفزّه واستدرجه إلى اللجوء إلى القوة في جورجيا أولا ثم، في شبه جزيرة القرم، وأوكرانيا لاحقا.
مشكلة روسيا أنها ظلت تتصرف بعد انهيار الاتحاد السوفييتي على أساس أنها قوة عظمى، وأن الحرب الباردة قد ولّت
وعلى الرغم من تحرّش “الناتو” بروسيا واستفزازها، يوصَف الغزو الروسي لأوكرانيا بأنه “عدوان غير ناجم عن الاستفزاز” (Unprovoked aggression). ويكفي التذكير بأن الغزو الروسي لجورجيا، في أغسطس/ آب 2008، جاء بعد اعتراف الغرب بالإعلان الأحادي عن استقلال كوسوفو في فبراير/ شباط من العام نفسه، رغم معارضة روسيا، وبعد أربعة أشهر على قمّة “الناتو” في بوخاريست التي أبلغت كلا من جورجيا وأوكرانيا باحتمال أن تصبحا عضوين في الحلف الأطلسي، وشجّعتهما على إجراء الإصلاحات اللازمة. وشكلت هذه الخطوة هجوما صريحا على مصالح روسيا التي كانت تنشر قوات عسكرية في منطقتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية الانفصاليتين.
جاء ردّ فعل روسيا عبر تدخلات عسكرية، تركّز على المناطق الناطقة بالروسية وتشجّعها على الانفصال وتضم ما يمكنها ضمه من أراضيها، وزاد الوضع تأزّما في ضوء الدور الأورو- أميركي في أوكرانيا، حيث نجحت واشنطن في تمكين اليمين المتطرّف من إسقاط حكومة الرئيس المنتخب ديمقراطيا فيكتور يانوكوفيتش، وتنصيب بديلٍ غير ديمقراطيٍّ معادٍ للروس، وجيش يضم فصائل نازية تم تدريبها سنوات على الحرب بالوكالة التي تقودها اليوم ببسالة، وبسلاح أميركا وباقي دول “الناتو” الفتاك، وبتوجيه جنرالات أميركيين على الأرض، وبمساعدة استخبارات واشنطن.
ولكن أكبر تحدٍّ يواجه روسيا اليوم، وهي تحاول ضم أجزاء استراتيجية من أوكرانيا، يكمن في حديقتها الخلفية في آسيا الوسطى والقوقاز التي بدأت تفلت من قبضتها. في هذه المنطقة التي كانت لقرون جزءا من روسيا القيصرية ثم السوفييتية، عمل بوتين، منذ وصوله إلى السلطة، على استعادة النفوذ الروسي الاقتصادي والعسكري بها، نظراً إلى موقعها الجيوستراتيجي، ولاحتوائها على ثاني أكبر احتياطي عالمي من النفط والغاز في بحر قزوين. مع انهيار الاتحاد السوفييتي، أصبحت المنطقة موضع تنافسٍ طاقوي بين أميركا وروسيا والصين وتركيا وبريطانيا وباقي دول الاتحاد الأوروبي، وانطلقت منها عدة خطوط أنابيب تضخ نفط بحر قزوين، وتوصله إلى البحر الأبيض المتوسط، ثم تنقله إلى الأسواق الغربية.
أكبر تحدٍّ يواجه روسيا اليوم، وهي تحاول ضم أجزاء استراتيجية من أوكرانيا، يكمن في حديقتها الخلفية في آسيا الوسطى والقوقاز
ومع تنامي دور أنقرة وواشنطن وحلفائها في المنطقة، بدأ نفوذ روسيا في التآكل تدريجيا، حتى جاءت الحرب على أوكرانيا، وعرّت ضعف نفوذها في محيطها الطبيعي، فما أن سحبت موسكو 1.500 جندي من قاعدتها العسكرية المرابطة في طاجيكستان منذ 2004، لتعزيز قواتها في أوكرانيا، حتى اشتعلت الاشتباكات بين قوات طاجيكستان وقيرغيزستان على خلفية خلاف حدودي. وتكرّر الموقف في الدول المجاورة، إذ عاد الصراع المسلح بين أذربيجان وأرمينيا بعد أن سحب الكرملين حوالي ألف جندي متمرّس وأرسلهم إلى أوكرانيا أيضا، وشكّل هجوم أذربيجان على أرمينيا رسالة تحدٍّ لروسيا التي ما زالت تنشر قواتها في منطقة ناغورنو كاراباخ المتنازع عليها.
وأبانت هذه الأزمات عن ضعف منظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO)، التحالف العسكري الذي يتكون من بيلاروسيا وأرمينيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان، وروسيا التي تقوده منذ إنشائه عام 2002، ولم تفلح في تشكيل ثقل تواجه به حلف الناتو. لكن المنظمة لم تستجب لمناشدة أرمينيا وطلبها المساعدة، حرصا من روسيا على عدم التورّط في جبهة حرب ثانية، واستبعاد كازاخستان نشر قواتها أيضا.
وقد بدا تراجع نفوذ روسيا في حديقتها الخلفية واضحا، حين أهان الرئيس الكازاخستاني قاسم جومارت توكاييف بوتين في المنتدى الاقتصادي في سانت بطرسبرغ في يونيو/ حزيران 2022، بإعرابه عن رفض بلاده الاعتراف بـ “شبه دولتين مثل لوغانسك ودونيتسك”. وسرعان ما تحوّل هذا الموقف إلى أزمة بين البلدين، بعد أن خاطب توكاييف رئيس المجلس الأوروبي، شارل ميشيل، وعرض عليه استخدام إمكانات بلاده الهيدروكربونية لتحقيق الاستقرار في الوضع في العالم والأسواق الأوروبية. جاء ردّ موسكو بعد يومين على هذا التصريح، بإغلاق محطّة نوفوروسيسك النفطية ومنع كازاخستان من تصدير احتياطاتها الضخمة من النفط والغاز عبر بحر قزوين، بحجّة أن ألغاما بحرية من مخلفات الحرب العالمية الثانية تهدد المحطّة.
موسكو تواجه تفكّكا في محيطها التاريخي، ما يقوّي دور أذربيجان، وقرغيزستان، وتركيا، والصين، إضافة إلى واشنطن وحلفائها
وعلى عكس كازاخستان التي تلتزم بالعقوبات الغربية ضد روسيا، لم تنفذ حكومة جورجيا العقوبات الاقتصادية ضد موسكو، بينما يعمّها غضبٌ شعبيٌّ ضد الغزو الروسي لأوكرانيا. ويعبّر الجيورجيون عن وقوفهم في وجه روسيا عبر مشاركة فيلقٍ يعتبر أكبر وحدة عسكرية دولية تقاتل روسيا في أوكرانيا. ولا يستبعد أن تنحاز الحكومة الجيورجية للمزاج الشعبي، وتستغل ضعف النفوذ الروسي في المنطقة للتدخل ضد أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، المنطقتين الجورجيتين الانفصاليتين الخاضعتين لسيطرة الكرملين.
من الواضح أن موسكو تواجه تفكّكا في محيطها التاريخي، ما يقوّي دور أذربيجان، وقرغيزستان، وتركيا، والصين، إضافة إلى واشنطن وحلفائها الذين سيستغلون الفراغ في السّلطة الذي أحدثه تراجع روسيا في المنطقة، مثلما ملأت موسكو الفراغ الأميركي في سورية، والفراغ الفرنسي في مالي ومناطق أخرى. ومن ثم تُطرح هذه الأسئلة: هل سيتراجع الدور الروسي في الشرق الأوسط وأفريقيا؟ ومن سيملأه إن حدث ذلك؟ يصعب التنبؤ بأي جواب، وبما ستحمله في طياتها الأسابيع والشهور المقبلة، وكيف سيتحرّك مختلف اللاعبين خلال شتاء التصعيد الروسي، ولعبة استنفاد جهود الخصم، وانتهازية تركيا، ومآلات غلاء أسعار المحروقات والغذاء، والاحتجاجات الشعبية المتزايدة، والانتخابات الأميركية المرتقبة، وعامل المفاجآت التي تغيّر أحيانا مجرى التاريخ.