البرهان يستكمل هدم البنيان
جعفر عباس
حكم عمر البشير السودان باسم حزب المؤتمر الوطني لثلاثين سنة، وتركه قفراً يباباً، ولو تغاضينا عن التدمير الهائل لكل المرافق الخدمية، وإرغام المواطن على الصرف على الحكومة بإثقال كاهله بالضرائب والجبايات، وتغاضينا أيضا عن أن حكومة البشير سفحت الدماء وشحيح المال الموجود في الخزينة العامة لفصل جنوب البلاد، فكان لها ما أرادت، وقامت في الجنوب دولة مستقلة، ورغم مرور أحد عشر سنة على قيامها، ليس فيها ما ينبئ عن أنها قابلة للاستمرار.
لو غضضنا الطرف عن كل ذلك، فإن أكبر جريمة ارتكبها نظام البشير بحق وطنه، هي إنشاء المليشيا القبلية المسماة اليوم الدعم السريع، تحت قيادة عائلة دقلو، والتي أبرز رموزها محمد حمدان الشهير بحميدتي قائدا عاما لها، وأخوه عبد الرحيم نائبا له، بينما يتولى بقية الإخوة إدارة المرافق الاقتصادية الضخمة التي وضعها البشير تحت تصرف آل دقلو، وينعم أبناء عمومة وخؤولة حميدتي بالرتب العسكرية العالية في تلك المليشيا.
ثم جار الزمان على السودان، حتى صار حميدتي شاغلا لأرفع المناصب الدستورية فيه بوصفه نائب عبد الفتاح البرهان قائد عام الجيش السوداني، الذي زحف إلى كرسي السلطة بقوة السلاح، ثم صار منذ 25 تشرين أول/ أكتوبر من العام الماضي هو السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية في البلاد، (ارتدى البرهان مؤخرا جبة عمر بن عبد العزيز، وهناك اليوم مقطع فيديو لإمرأة تضع على وجهها قناعا ـ وليس نقابا ـ تروي كيف أن شخصا ما رآها تقف في الشارع وهي في حال ذهول، فسألها ما بها، فقالت له إنها حائرة في أمر قوت عيالها، فدخل صاحبنا إلى متجر وأتاها بالسكر والشاي والزيت والحلوى وسلع أخرى، فنظرت إليه لتشكره فإذا هو عبد الفتاح البرهان، قدَّس الله سره).
تشهد دولة البراهنة والدقالوة (البرهان وآل دقلو) عبثا بما تبقى من مقدرات البلاد يشيب له الولدان، فأمر وزارة المالية بيد قائد مليشياوي آخر نال المنصب بعد تقاسم كعكة الحكم بموجب اتفاق سلام طبخه البرهان وصحبه مع عدد من أمراء الحرب في إقليمي دارفور والنيل الأزرق، وكان الرجل قد أعلن فور إسناد المنصب اليه أنه معنيٌّ بتوفير المال ل”قومه”، وظل صادقا مع نفسه على الأقل، يوزع الإعفاءات الجمركية على من يريد، ويصدر الفرمانات السلطانية التي شلّت حركة الصادر والوارد، ولما انكشف مؤخرا أمر إعفائه سيارة أتى بها لابن أخيه من الضرائب ورسوم الجمارك برر ذلك بأنه “منصوص عليه في اتفاقية السلام”.
تؤكد كل القرائن المادية الملموسة بأن السودان وفي ظل حكم البرهان استكمل حلقات الانهيار الكامل للدولة، فلم تعد الشرطة في خدمة الشعب، وعمل البرهان على تحويل الجيش إلى مليشيا تابعة له ولكبار معاونيه، وأصيب الجنيه السوداني بضمور تام في العضلات، ولا كتب في المدارس ولا أدوية في المستشفيات، وعناصر المليشيات تمارس النهب بقوة السلاح داخل المدن متذرعة بأنها لم تجد وسيلة أخرى لكسب العيش، والاقتتال القبلي مستعر في أطراف البلاد، والجالسون في قصور الحكم في الخرطوم ضالعون فيه.
تؤكد كل القرائن المادية الملموسة بأن السودان وفي ظل حكم البرهان استكمل حلقات الانهيار الكامل للدولة، فلم تعد الشرطة في خدمة الشعب، وعمل البرهان على تحويل الجيش إلى مليشيا تابعة له ولكبار معاونيه، وأصيب الجنيه السوداني بضمور تام في العضلات،
صحيح أن البرهان هو أقل من جلسوا على كرسي الرئاسة في السودان فهما ووعيا سياسيا، ولا يعرف من ثم وسيلة لحسم الخصوم وإسكاتهم غير القتل والسحل، ولكن صحيح أيضا أن فيروسات انهيار الدولة ظلت تسري في جسم السودان منذ استقلاله، وقد خضع السودان حتى الآن لأربع حكومات عسكرية (آخرها حكومة البراهنة والدقالوة)، أشبعته دمارا وخرابا، ولكن الحكومات المدنية المنتخبة خلال العقود الماضية لم تكن أكثر فلاحا ونجاحا من العسكرتاريا، لأنها كانت بأيدي أحزاب بلا خطط أو برامج، بل تفتقر إلى الديمقراطية في هياكلها ولا يترك قادتها مناصبهم إلا بتدخل مباشر من عزرائيل.
قبل أيام أبلغ ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في السودان، فولكر بيرتس، مجلس الأمن الدولي بأن الأوضاع في السودان لا تبشر بالخير بسبب تردي الأوضاع الأمنية والإنسانية (12 مليون سوداني مهددون بالمجاعة التامة خلال الأشهر القليلة المقبلة)، وتضاؤل الفرص لإقامة حكم مدني ـ وقال تلميحا ان تصرفات حكومة البرهان تشي بذلك، بدليل أنها قتلت 118 من معارضيها رميا بالرصاص في الشوارع خلال الأشهر التسعة الماضية.
في عام 1988 اجتمع د. محمد المرتضى مصطفى بوصفه وكيلا لوزارة العمل، وكان قبلها المدير الإقليمي لمنظمة العمل الدولية لشمال أفريقيا والشرق الأوسط، برئيس الوزراء السوداني وقتها، الصادق المهدي، ليبلغه بأن دراسة مطولة ومنهجية أجرتها المنظمة الدولية، تفيد بأن السودان على وشك الانهيار كدولة، وأن ذلك ناتج عن عدم وضوح الرؤية للقيادة السياسية وعدم استقرارها، بل و”عدم وضوح فكرة الدولة”، وماذا تريد هذه الدولة؟ وما هو الهدف الذي تنشده؟ وكانت عاقبة النصح هذا أن فقد الرجل وظيفته وهاجر، كما ملايين المهنيين السودانيين.
ظل السودان دولة هشة منذ نيل استقلاله في عام 1956، وبذلت الحكومات المتعاقبة جهدا أقل من القليل لإقالة عثراته، ثم جاءت حكومة عمر البشير وخلخلت أوصاله بإشعال الفتن والحروب في شرقه وغربه وجنوبه، وإنهاك اقتصاده وجلب العقوبات الدولية عليه، وسقط حكم البشير وآلت الأمور إلى البرهان الذي لا يعنيه من أمر الحكم سوى مظاهر الفخفخة والتباهي بعديد النياشين التي على صدر بزته العسكرية والتي لم ينل أيّاً منها من محاربة عدو، وها هو ينسف ما تبقى من كيان الدولة رافعا شعار “أنا ومن بعدي الطوفان”.