البرهان والتذاكي الأخرق
جعفر عباس
استغل عبد الفتاح البرهان الظروف المضطربة التي صاحبت الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بحكم الرئيس السوداني عمر البشير، وصار رئيسا لمجلس السيادة وقائدا عاما للجيش السوداني، ولم يكن له سهم في تلك الانتفاضة، ولكنه لتحقيق طموحه الشخصي، ولغ في الدماء بحسبان أن ترويع الشعب “المنتفض” بالقتل والاعتقال والتنكيل، سيجعله ينصرف عن مطلب الحكم المدني، ثم تحت الضغط الشعبي قبل بأن تكون الحكومة التنفيذية مدنية، ولم يدَّخر هو والجنرالات الذين اصطحبهم إلى مجلس السيادة جهدا لإفشال تلك الحكومة، ثم عِيل صبره فانقلب عليها في 25 تشرين أول/ أكتوبر 2021.
ومنذ يومها والبرهان ينكر أن ما قام به بوصفه قائد الجيش، من حلِّ الحكومة واعتقال الوزراء والسياسيين، وقتل الرافضين لعسكرة الحكم، وانفراده بالقرارات يشكل انقلابا عسكريا، وكان حتى 30 حزيران/ يونيو المنصرم يعقد الآمال على الحصول على سند مدني شعبي ذي وزن سياسي، ولكن ذلك اليوم شهد تسونامي بشريا اجتاح 47 مدينة يرفض وجود البرهان في المشهد السياسي والدستوري، ويرفض أيضا مجرد التفاوض معه لترتيب “الخروج المنشود”، وبعبارة أخرى فإن المطلب الشعبي المطروح بإزاء ذلك الأمر، هو أن يعلن البرهان ورهطه الاستقالة من مناصبهم السيادية ويعودوا إلى ثكناتهم، وكان أكثر ما أرعب البرهان في ذلك اليوم أن مدن دارفور الكبرى جميعها خرجت في مواكب هادرة وراعدة رافضة حكم العسكر، وهكذا أدرك البرهان أن قادة دارفور الذين استوعبهم في مجلس السيادة ليوفروا له السند الجماهيري، أكثر منه عزلة من الجماهير.
في الرابع من تموز/ يوليو الجاري، وكعادته في “القتل والمشي في جنازة القتيل”، خرج البرهان على الناس ببيان بدأه بالترحم على “الشهداء”، وهم من صرعتهم قواته خلال الأشهر السبعة المنصرمة، ثم أعلن أن المؤسسة العسكرية لن تشارك في أي حوار يتعلق بإقامة الحكم المدني، وستترك الأمر للقوى السياسية المدنية لتبت في ذلك الأمر، وهذا في جانب منه اعتراف مبطن بالهزيمة، وإدراك لحقيقة أن الشعب يرفض اشتراك العسكر في أمور الحكم، ولكن وفي كل منعطف خطير في مسارات الأمور في السودان منذ سقوط نظام عمر البشير وصعود البرهان إلى رئاسة المجلس العسكري، الذي حاول الاستئثار الكامل بالسلطة، ثم رئاسة المجلس السيادي، ظل البرهان يكذب ويخاتل: فقد أعلن من قبل أنه لن يفض اعتصام المطالبين بالحكم المدني أمام مبنى القيادة العامة للجيش، ثم رتب حملة عسكرية ضخمة للقضاء على المعتصمين، وقال مرارا إن الجيش لن يقوم بانقلاب عسكري، وقاد هو ذلك الانقلاب لمصلحته الشخصية، ولأنه محدود القدرات السياسية والفكرية، فقد حسب أنه وبال “فهلوة” يستطيع أن يحوز السلطة التي يقول ظاهر كلامه ذاك إنه عازف عنها.
ولأن البرهان شأنه شأن الطغاة يستخف بالجماهير ولا يحسن من ثم قراءة الأحداث، حسب أن الملايين التي لم تتوقف قط عن رفض حكمه العسكري منذ انقلابه الأخير، ستتهافت على الطُّعم المتمثل في التلميح بخروج العسكري من دواوين الحكم المدني، وتفوت عليها دلالات قوله إن العسكر سيكتفون بعضوية المجلس الأعلى للقوات المسلحة، فإذا بالاحتجاجات على وجوده في الحكم تتحول إلى اعتصامات في عدد من المدن، لإدراك الناس أن البرهان يريد أن يخرج من المشهد من الباب ويعود إليه من شباك المجلس الأعلى ذاك، الذي حرص على اصطحاب قوات الدعم السريع سيئة السيرة والمسيرة فيه.
المجلس العسكري الأعلى الذي سبقه إليه عبد الفتاح المصري عند التمهيد لانقلابه على الحكم، يريد له البرهان أن يتولى أمور الأمن والدفاع والسيادة (القضاء والنيابة العامة) وشؤون البنك المركزي، (علما بأن جيش البرهان يسيطر على أكثر من 80% من مفاصل وموارد الاقتصاد السوداني)، وكان البرهان خلال انفراد العسكر بالحكم بعد سقوط نظام البشير في الفترة ما بين نيسان/ أبريل 2019 وآب/ أغسطس 2019، قد وضع قطاعي الاتصالات والطيران تحت مظلة الجيش، وقبل أسابيع قليلة ضم شؤون السواحل والمياه الإقليمية إلى وزارة الدفاع، (علما بأنه بَصم لروسيا على إقامة قاعدة ويفاوض شركة إماراتية لإقامة ميناء جديد في ساحل البحر الأحمر).
حرص البرهان على دق الأسافين بين الجيش والشعب، بالزعم المتكرر بأن القوى المدنية تحتقر العسكريين وتشتمهم في بياناتها، وهو بذلك يقول إن شتمه ووصمه بالدموية والانتهازية إساءة لكل الجيش،
ولأن المتذاكي يكشف عِيّه دون قصد منه، فقد قام البرهان قبل أيام قليلة بإقالة خمسة مدنيين، كان قد أتى بهم كديكور لمجلس السيادة عقب انقلابه الأخير، لنفي شبهة العسكرة عنه، وجاءت الإقالة بأسلوب مهين عبر الرسائل النصية والاتصال الهاتفي من موظفين في القصر الجمهوري، بينما كان هو (البرهان) في نيروبي، بل إن أحدهم لم يعرف بأمر إقالته إلا عندما أبلغه سائق سيارته الحكومية أنه تلقى الأمر بتسليم السيارة إلى مرآب القصر الجمهوري، وهنا أيضا خانه التذاكي فرئاسة مجلس السيادة لا تعطي البرهان حق إقالة أي عضو في المجلس، بل إنه لم يكن يملك صلاحية منحهم عضوية المجلس، ولكنه “فعلها”، ومع ذلك يحاضر الآخرين حول كفاءة الحكم واحترام القانون والدستور.
والمتذاكي كما الفهلوي، يحسب أن الآخرين لا يفهمون ما يضمره كلامه أو فعله، فرغم أن ظاهر البيان الذي تلاه في 4 تموز/ يوليو يؤكد أنه زاهد في الحكم، وقرر من ثم النأي بالمؤسسة العسكرية عن الحكم، فقد أبقى على الفرمانات التي أصدرها بوصفه قائد الانقلاب، لتكريس وتعزيز سلطته، حتى وهو ظاهريا خارج أروقة الحكم، كما أعطى نفسه حق تحديد شكل ومخرجات الحوار بين القوى المدنية، ونصّب بذلك نفسه وصيّا على القوى المدنية.
ولم يفت على القوى المناهضة للانقلاب أن البرهان يخطط لانقلاب جديد، لأنه يراهن على أن القوى المدنية لن تتوافق على شكل وهياكل الحكم، لأن كتلة منها، وفي قلبها الحركات المسلحة التي استضاف قادتها في مجلس السيادة، التي رعاها هو لشق صفوف المدنيين وساندت انقلابه، ستعمل على إجهاض مساعي التوافق، فيجد البرهان الذريعة ليقول: أعطيناهم الفرصة كاملة وأضاعوها وضيعوا البلاد، ولا بد للجيش من أن يتولى الحكم ويعبر بالبلاد إلى منصة الانتخابات العامة.
في كل مناسبة اعتلى فيها منبرا أمام رجال جيشه، حرص البرهان على دق الأسافين بين الجيش والشعب، بالزعم المتكرر بأن القوى المدنية تحتقر العسكريين وتشتمهم في بياناتها، وهو بذلك يقول إن شتمه ووصمه بالدموية والانتهازية إساءة لكل الجيش، متجاهلا حقيقة أن جعل شخص مثل حميدتي، بلا أي مؤهل أو خبرة في أي مجال سوى ممارسة القتل بالجملة، أعلى رتبة عسكرية من 99% من ضباط الجيش الحقيقيين، وإشراكه وقواته في المجلس العسكري الأعلى المقترح، أكبر إهانة تُوَجَّه إلى جيش نظامي.