آراء

البرهان يواصل الولوغ في الدماء

جعفر عباس

شهدت ست وعشرون مدينة سودانية يوم الخميس الماضي الموافق 30 حزيران/ يونيو سيولا بشرية عارمة رفضا للسلطة العسكرية الانقلابية التي شيدها عبد الفتاح البرهان على جماجم مئات المواطنين الذين سلط عليهم آلته الحربية، وكعادته أطلق البرهان جلاوزته، فحصدوا أرواح تسعة من الشبان وألزموا المئات أسِرّة المشافي، وكعادته أيضا قال قبل انطلاق مواكب المعارضين لحكمه، إن حق التظاهر السلمي مكفول، وإن قوات الشرطة لا تحمل الأسلحة النارية وهي ترصد أو تفض المظاهرات.

كان البرهان يدرك أن ذلك الخميس سيكون بداية تصعيد حازم وحاسم ضد سلطته الانقلابية، بعد أن نجحت قوى المعارضة في التوافق على ميثاق الحكم في فترة ما بعد سقوط نظامه، وكان الرجل يدرك أيضا أن العناصر المدنية التي استتر بها انقلابه في 25 تشرين أول/ أكتوبر 2021 رخوة وهشة وبلا وزن سياسي أو فكري، وأن بعضها بدأ اللعب على حبلين بالنأي عن الانقلاب دون الذوبان تماما في كيانات المعارضة، فإذا به يصيح سعيدا قبل أيام قليلة من موعد مواكب الخميس تلك: وجدتها، وجدتها.

فقد خرج الناطق باسم الجيش السوداني لينعى للشعب سبعة من الجنود، قال إن الجيش الإثيوبي قتلهم وهم أسرى عنده ثم مثّل بجثثهم، وإن ذلك حدث في منطقة الفشقة المتاخمة لإثيوبيا، ومعلوم أن الفشقة هذه أرض سودانية ولم تكن إثيوبيا تحتلها، ولكن أراضيها الخصبة كانت تحت سيطرة قبيلة أمهرا الإثيوبية منذ عام 1995، وهي السنة التي حاول فيها نظام الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، وفي وجه السخط والعقوبات الدولية سكت نظام البشير على استيلاء الأمهرا على أراضي الفشقة، ثم احتلال مصر لمثلث حلايب وشلاتين بالكامل، وهو الإقليم الذي يتبع للسودان حسب الخرائط الموروثة من الحقبة الاستعمارية، والتي توافقت الدول المؤسسة لمنظمة الوحدة الأفريقية ومن بينها مصر على أنها “رسمية ونافذة”.

منذ كانون أول/ ديسمبر من عام 2020 قام البرهان بتحرير الفشقة خمس مرات، أي أنه يعمد إلى استخدام الفشقة كقميص عثمان يستجدي به التعاطف الشعبي: “تعرضت قواتنا الباسلة لعدوان غادر.. نجحت قواتنا في تحرير الفشقة ونهدي هذا النصر لشعبنا الأبيّ”، وهكذا أراد البرهان استثمار مصرع سبعة من الجنود على أيدي قوات إثيوبية (إثيوبيا تقول انهم قتلوا خلال مواجهات مع مليشيا الأمهرا)، فطار إلى الفشقة وأرغى وأزبد وهدد وتوعد، وهو يحسب أن العويل حول عدو خارجي، سيجعل الشعب يلتف حول قيادته، وينفض من ثَم عن صفوف المعارضة، وبذلك يجهض مواكب 30 حزيران/ يونيو، ولأن حبل الكذب قصير، فقد أعلنت قيادة القوات المسلحة السودانية قبل ثلاثة أيام، استرداد “جبل تسفاي” في الفشقة، ولم تكلف نفسها جهد تفسير كيف يتم تحرير ما هو محرر سلفا وقد أقيمت الاحتفالات قبل أكثر من سنة ابتهاجا ب”تحرير الفشقة”؟

رغم أن البرهان يحاول جاهدا ارتداء مسوح الرجل الصلب، إلا أنه لا شك يدرك مغزى الهتاف الذي يتكرر في كل موكب يخرج صارخا ضد سلطته بأنه “لا حصانة، وإما المشنقة أو الزنزانة”.



لا يجد البرهان نصيرا في المنابر الإعلامية سوى حفنة من كبار ضباط الجيش المتقاعدين، الذين ربما يحلمون بأن يرد البرهان “غُربتهم”، فيعيدهم إلى مناصب عسكرية أكثر رفعة، أو يعينهم سفراء هنا أو هناك كعادة النظم الانقلابية في استجداء تعاطف العسكريين المتقاعدين، ومن ثم يعول على مستشاره الإعلامي العميد الطاهر أبو هاجة، غير مدرك ان الأخير نفسه بحاجة الى مستشار يحدد له ماذا يقول ومتى يقوله، فعشية مواكب الخميس خرج أبو هاجة على الملأ قائلا: إن المخطط الإثيوبي في الفشقة، وتحركات معارضي البرهان تصدر من “نفس المشكاة”، مما يشي بأنه يحسب المشكاة مصدرا للشرور، ولا يدري أنها “حامل” الضياء والنور.

ورغم أن البرهان يحاول جاهدا ارتداء مسوح الرجل الصلب، إلا أنه لا شك يدرك مغزى الهتاف الذي يتكرر في كل موكب يخرج صارخا ضد سلطته بأنه “لا حصانة، وإما المشنقة أو الزنزانة”، ومن ثم لم يكن مفاجئا أن يصدر مؤخرا قانونا يقضي بأنه “لا يجوز اتخاذ أي إجراءات قانونية ضد الضباط من رتبة فريق فما فوق أمام القضاء المدني عن أي فعل يشكل جريمة……”، وكاد المريب أن يقول خذوني.

في 3 حزيران/ يونيو من عام 2019 نفذ المجلس العسكري الذي كان البرهان يقوده مجزرة بحق من كانوا يعتصمون أمام قيادة الجيش لعدة أسابيع، مطالبين بحكومة مدنية تخلف نظام عمر البشير، وكان ذلك قبل عيد الفطر المبارك بيومين، ويوم الخميس الماضي، وعشيات عيد الفداء العظيم، كانت المجزرة التي لقي فيها تسعة شبان ربهم، وأصيب المئات بطلقات الرصاص، وكان ذلك الخميس غرة ذي الحجة، الذي قال عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم “إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا؛ ألا هل بلّغت؟” نعم بلغت يا رسول الله ولكن من ارتكبوا تلك المجزرة “صُمٌ ُبكْمٌ عُمْيٌ فهم لا يعقلون”.

Author

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى