عسكر السودان والمخرج الآمن
المؤكّد اليوم في السودان أن ثمّة حوارا يجري بين قوى الحرية والتغيير والمكون العسكري الانقلابي الحاكم منذ انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول (2021)، حتما سيكون له ما بعده. والثابت أيضا أن هذا الحوار الثنائي جاء استجابة لضغوط أميركية وإقليمية قوية لإنهاء الخلاف العسكري والمدني، واستشراف مرحلة جديدة، حسبها أن توفر مخرجا للطرفين من الأزمة التي أوصلت البلاد إلى حافة الهاوية والانهيار. والأسباب التي دفعت إلى التفاوض متعدّدة ومتشابكة، فالعسكر يبحث عن مخرج من المأزق الذي حشروا فيه أنفسهم، وقائد الانقلاب، عبد الفتاح البرهان، التزم خطّا واضحا يعيد به النظام القديم بدون عمر البشير. ومن هذه الزاوية، يمكن فهم ما يدور في السودان. إنها الفكرة التي أطلقت قبيل الثورة التي أطاحت نظام البشير في عام 2018، مختصرها إبعاد عمر البشير واستمرار حكم الإخوان المسلمين، وفق شروط جديدة للعبة، وتحت مظلة انتخابات وتعددية سياسية. وهذا ما يعنيه البرهان في كل مرة يؤكد فيها على مشاركة كل القوى، ما عدا حزب المؤتمر الوطني. والآن تبدو الشروط الموضوعية للتغيير متوفرة، فمسألة تغيير الاسم وتبديله ثقافة ثابتة ومجرّبة للحركة الإسلامية في السودان، فمن الإخوان إلى جبهة الميثاق إلى الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وصولا إلى المؤتمر الوطني، ثم خليفته المؤتمر الشعبي الذي هو في واقع الأمر جزء من السلطة الانقلابية الحاكمة اليوم.
يلفت النظر الدعم الذي يحظى به البرهان والإنقلابيون من مصر والسعودية والإمارات، في جهود تقف بوضوح إلى صفهم، وتدعم عودة الإخوان المسلمين إلى الحكم في السودان، على نقيض قمع هذه الدول هؤلاء وسجنهم وحظرهم واعتبارهم منظمة إرهابية. ويفسّر تناقض المصالح هذا مشيئة الولايات المتحدة المبكرة والسابقة لتنفيذ رغبتها في جمع هذه النقائض السودانية على صعيد واحد، في ما يعرف سودانيا بالهبوط الناعم. إذن، الحوار وإنهاء الأزمة هو جوهر الفكرة التي جعلت الإدارة الأميركية تبارك، ابتداء، مهمة الآلية الثلاثية (الأمم المتحدة، الاتحاد الأفريقي، الإيغاد) لحل الأزمة، ثم تلحق ذلك بإرسال مولي فيي، مساعدة وزير الخارجية، والتي وضعت النقاط على الحروف للعسكريين والمدنيين.
العسكر يبحث عن مخرج من المأزق الذي حشروا فيه أنفسهم، وقائد الانقلاب، البرهان، التزم خطّا واضحا يعيد به النظام القديم بدون البشير
ويبدو أن فكرة هبوط ناعم قد عاودت قوى الحرية والتغيير، فتعمل هذه على تنفيذها مع العسكريين، لتخرج بحكومة مدنية مؤقتة من التكنوقراط برقابة عسكرية، والبدء في الترتيبات لانتخابات مبكرة. ووفقا لهذا المسعى، سيكون دور الآلية الأممية الثلاثية المنظم والضامن لترتيبات المرحلة المقبلة، لكن الآلية غير مرحب بها وبجهودها لدى أطراف سياسية متعدّدة، تتهمها بأنها تهدف إلى إضفاء الشرعية على الانقلاب العسكري. ومن ذلك الانتقاد اللاذع لها من تجمّع المهنيين الذي أعلن صراحة عدم ثقته بها وبشخوصها، وخصّ بالذكر الموفد الأفريقي ولد لبات، فقد رفض تجمع المهنيين إعادة تعيين لبات موفدا، في رسالة بعثها إلى الاتحاد الأفريقي في 25 فبراير/ شباط. أما أكبر المعضلات فتتمثل في موقف شباب لجان المقاومة الرافض تماما التفاوض مع العسكر، متمسكا بشعاراته “لا تفاوض، لا شراكة، لا مساومة”. لقد أصبحت اللجان لاعبا لا يستهان به في الساحة السياسية، وتتجّه، بخطوات ثابتة، إلى أن تصبح أكبر قوة منظمة في السودان. وقد أصدرت، أخيرا، وثيقة “دستور سلطة الشعب”، المانفيستو المؤطر لفكرة اللجان وأهدافها. وقد نجحت في جذب حلفاء لها من القوى السياسية، وحليف مهم هو تجمع المهنيين. ووجود اللجان المحرّك لتظاهرات المدن في كل السودان يمثل تحدّيا حقيقيا لأي اتفاق يتوصل إليه المتفاوضون من عسكر ومدنيين.
هل من مخرج؟ وصف القيادي في “الحرية والتغيير” ياسر عرمان التفاوض مع العسكر بأنه يوفر “المخرج الآمن لإنهاء الانقلاب”، في كلمات غير محسوبة، أغضبت كثيرين في الشارع الساخط أصلا. واضطرت قيادة قوى الحرية والتغيير للتخفيف من لغة المساومة، ليستبدلها قيادي آخر هو رئيس حزب المؤتمر السوداني عمر الدقير بقوله إنهم أبلغوا الآلية الثلاثية بأنهم “لن يكونوا جزءاً من حوار يشرعن الانقلاب، ولا ينهيه، ولا يؤدّي إلى قيام سلطة مدنية من قوى الثورة”، وهو قول تنفيه المحادثات الجارية.
يبدو أن فكرة هبوط ناعم قد عاودت قوى الحرية والتغيير، فتعمل على تنفيذها مع العسكريين
وأخيرا، اختارت الموفدة الأميركية مولي لقاءها مع ممثلي لجان المقاومة منصّة تعلن عبرها أسباب زيارتها إلى السودان: القلق بشأن وضع السودان الاقتصادي الذي ازداد تردّيا بعد الانقلاب، وانعكاسات الحرب الأوكرانية التي سوف تزيد من تعقيدات الوضع، وبحسب قولها إن نحو 18 مليون سوداني سيكونون، في نهاية سبتمبر/ أيلول، مهدّدين بالجوع، وهو “رقم مخيف”، بتعبيرها، بمعنى أن المجاعة تهدّد نصف السودانيين تقريبا، بكل ما يعنيه ذلك من صراعات وأزمات وربما حروب، وأكدت في اللقاء على الموقف الأميركي المساند للحراك الشعبي بالقول “أرجو أن تكونوا مؤمنين بأننا في صفكم، وأننا قد أوقفنا الدعم المادي للحكومة الحالية، لكننا فقط قلقون بشأن الوضع الاقتصادي، كما أننا نعلم أن هناك انشقاقا بين الدعم السريع والجيش ونخشى انفجار الأوضاع لديكم”.
ويعتقد الكاتب هنا أن أبلغ تلخيص للمشهد الحالي، ولموقف قوى الحرية والتغيير ورؤيتها للمخرج من الأزمة، ما كشف عنه عضو مجلس السيادة السابق محمد الفكي سليمان أن على القوى السياسية في “الحرية والتغيير” أن تجهز نفسها للانتخابات، مقابل أن يذهب العسكر إلى ثكناتهم. إنه الطريق المختصر للخروج من الأزمة كما تراه هذه القوى. مساومة يصعب أن يتقبلها الشارع في ظل العنف والضحايا والشهداء والمفقودين، وما أكثرهم، وفي ظل هيمنة طبقة فاسدة عسكرية في تحالف مدني يبحث عن “خروج آمن”، لكنه صعب.