يا وطني: أضاعتك نخب دولة ما بعد الاستعمار الأربع! وبالأخص متعلمو الأفندية الإسلاموعروبيون كمبرادورات الإمبريالية
محمد جلال أحمد هاشم
جوبا – 21 يناير 2024م
(مهداة الى والدي في ذكرى وفاته الثالثة والعشرين: لقد عاش موظفا في الدولة، لكنه لم يكن أبدا أفنديّاً؛ فهو لم يخن، ولم يسرق، ولم يساوم أبداً في مبادئه)
*نخب دولة ما بعد الاستعمار الأربع*
هذه النخب هي: (1) المؤسسة العسكرية؛ (2) زعماء الطوائف الدينية؛ (3) زعماء العشائر الإثنية؛ (4) وطبقة الأفندية ناتجة النظام التعليمي غير الوطني. وأشرّهم الأخيرة لأنها هي المباءة التي عادةً ما ينتهي إليها نخب المجموعات الثلاث الأولى. وجميعها متحالفة مع بعضها، مها تظاهرت بغير ذلك، أكان من حيث الانقسام الزائف يميناً ويساراً، أو من حيث الحكم والمعارضة. وهي نفسها النخب التي اصطنعها الاستعمار لنفسه ثم ورثت عنه حكم البلاد بعد تحقق الاستقلال السياسي الإسمي، لتبدأ بعدها رحلة التبعية. وجميع هذه النخب الأربع تلتقي في أنها تنتمي بالأصالة إلى الأيديولوجيا الإسلاموعروبية الغاشمة، حتى إذا كان بعض منها ليس بمسلم اعتقاداً أو انتقادا. فإذا عرفنا بأن هذه هي النخب التي حكمت السودان منذ استقلاله، وقايسنا هذه الحقيقة مع حقيقة أخرى تقول بأن وضع السودان منذ الاستقلال وإلى هذه اللحظة ظل ينحدر من حالقٍ إلى ماحقٍ، عندها أدركنا كيف أن ما يبدو في ظاهره كفشل ليس سوى انعكاس طبيعي لنجاح قوى الاستعمار والإمبريالية في التحكم على مصائرنا من عبر البعد عبر هذه النخب فيما يعرف بظاهرة تبعية دولة ما بعد الاستعمار لقوى الإمبريالية العالمية.
*خيانة طبقة الأفندية الكمبرادورية لوطنها وشعبها: حرب السودان نموذجا*
إنه لمما سيذكره التاريخ على أنه عار وطني كبير ما نراه الآن وما يحدث من تآمر على السودان من قبل قطاعات واسعة من طبقته المتعلمة من حيث دعم مليشيات الجنجويد المجرمة في حرب الوكالة التي تخوضها ضد الشعب السوداني وضد كيان الدولة السودانية نيابةً عن قوى الإمبريالية، بجانب استعدادها الداخلي للترويج لكل ما من شأنه إضعاف شوكة الجيش السوداني (على علاته). وهذا أمر يا طالما ظللت أكتب عنه كثيرا منذ أكثر من ثلاثين عاما، وليس أدل على ذلك من آخر كتابين صدرا لي، أحدهما باللغة الإنكليزية عام 2019م:
_To be or not to be: Sudan at Crossroads:A Pan Afrikan Perspective_ (Dar es Salaam, Tanzania)
والآخر باللغة العربية وقد صدرت طبعته الثالثة عام 2023م:
*مفاكرات حول منهج التحليل الثقافي* (كوالالمبور)
وقد قلت بالحرف، إن الخطوط الأمامية لسدنة الأيديولوجيا الإسلاموعروبية (الكيزان، أنصار السنة، الطائفيين، القوميين العرب … إلخ) قد استهلكت طاقتها وتهاوت وفقدت قدرتها على التأثير وتوجيه الأمور نحو الانهيار الكبير. هنا ستظهر الخلايا النائمة للأيديولوجيا الإسلاموعروبية وهي سدنة الصف الثاني والثالث، وهم أخطر ألف مرة من الصفوف الأمامية لأنهم لا يرفعون شعارات تلك الصفوف البائدة، بل ظلوا عمرهم كله يعملون كما لو كانوا حاملي مشعل الحداثة وما بعد الحداثة. فمنهم الماركسي اللينيني غير الشيوعي، ومنهم الماركسي اللينيني الشيوعي، ومنهم الاتحادي الديموقراطي الحداثوي وحزب الأمة المستنير، ومنهم المؤتمر السوداني المتفتح، ومنهم عضو حركات النضال المسلح من حركة شعبية وخلافها، ومنهم من يطرح نفسه كشخصية وطنية غير منتمية حزبيا ولكنه فقط مع الحقيقة ومع الشعب والوطن … إلخ، وجميييييييعهم غير أصيلين فيما يتظاهرون به، فهم أسوأ من الكيزان وأسوأ من أنصار السنة وأسوا من التكفيريين الداعشيين ومن بوكو حرام. ومرد السوء فيهم هو أن غباءهم الأيديولوجي لا يستحكم فيهم لدرجة العِماية التي ألفناها في سدنة الصف الأول للأيديولوجيا الإسلاموعروبية مثل الكيزان وأنصار السنة وكل من لفّ لفّهم، بل هو غباء بين بين، ذلك بأثر التعلق بأهداب الحداثة ومطالعة ما صادفهم من كتابات جعلتهم يحتفظون ببعض مخايل التفكير النقدي الذي لا يساعدهم أول وهلة ليفهموا الأمور على ما هي عليه من حيث وطنيتها من عدمها. ولكنه، في نفس الوقت، مع كونه غباءً، لكنه ليس كافياً ومستحكما بحيث يجعلهم غير قادرين على أن يستمروا في خداع أنفسهم. ولهذا، فهم بين بين، ذلك ريثما يعمدون إلى لعبة خداع الذات هربا من جلد الذات وسوانح صحيان الضمير متى ما واتتهم، فإذا هم في دوامة ما بين اليقظة والتوهان.
ثم لا يقف بهم الحال إلا بتخدير الذات، ذلك بإعلاء سقوطهم الأخلاقي والوطني، واستعراضهم لأنفسهم في سوق النخاسة السياسية، ذلك بأن يفقدوا كل مخايل الحشمة والوقار، إذ يبرزون بين الناس كما لو كانوا سدنة الوطنية الحقة والاستنارة. وكلما ألمت بهم وخزة من متبقيات الضمير المخدر، لجّوا في النكران وأسرفوا في فارغ الكلام المُكترى ببَدرةٍ من مال السحت، من فتات مال منظمات المجتمع المدني الدولية والمحلية.
وهذا ما يجعلهم ينكشفون، أول ما ينكشفون أمام أنفسهم. وهكذا تراهم يعيشون في جحيم وسُعار خداع الذات وانكشافها أمام نفسها، فلا يملكون من أمر نفسهم شيئا ولا يستطيعون أن يواروا سوءاتهم. وهكذا تسقط دونهم جميع أقنعة الحداثة، ولا يملكون من مهربٍ عنها أو مندوحة. وهنا ينطبق عليهم المثل القائل: عايرة وادوها سوط!
*قوى الصف الأول للأيديولوجيا الإسلاموعروبية: تفكيك مؤسسات الدولة الوطنية الحديثة*
وهكذا خلصت إلى أن دور الصفوف الأمامية للأيديولوجيا الإسلاموعروبية هو دهورة الأمور عبر التفكيك الممنهج لمؤسسات الدولة الوطنية: الشرطة تقابلها الشرطة الشعبية؛ الجيش تقابله مليشيات الدفاع الشعبي (ثم لاحقا مليشيات الجنجويد المجرمة، بما فيها المرتزقة العابرة للحدود)؛ قوات الاحتياط المساندة للقوات المسلحة تقابلها قوات المجاهدين؛ الخدمة المدنية والعدلية عبر الكفاءة تقابلها الخدمة المدنية والعدلية عبر الولاء على حساب الكفاءة؛ الاستقلالية والسيادة تقابلها التبعية والتفريط في الأرض وفي وحدة البلاد؛ الدولة الوطنية الحديثة التي لا تقوم لها قائمة حال افتقادها لشرط علمانيتها البنيوية تقابلها الدولة الدينية التي تمايز بين الشعب على أساس الضمير، وتتظاهر بأنها تحرس الاخلاق بينما هي تفعل العكس.
وجميعنا عشنا ورأينا ما فعلته دولة الإنقاذ الكيزانية المارقة وما بلغته في هذا. ولكن يجب علينا أن نصدع بالحقيقة كاملة. فدولة الكيزان هي فعلا تمثل سنام الأيديولوجيا الإسلاموعروبية، لكنها لا تمثل قاعدة هذه الأيديولوجيا. فجميع القوى السياسية المندرجة تحت نخب دولة ما بعد الاستعمار هي إسلاموعروبية، وقد ساهمت كل واحدة منها حسبما يليها من أدوار ومهام. فبعد ثورة اكتوبر، تمخض الجبل فولد فأرا، ذلك عندما التقت كلمة جميع أحزاب الأمة والاتحادي والكيزان على تجريد مؤسسة الدولة الوطنية الحديثة من شرط علمانيتها البنيوية، ذلك بتحويلها إلى دولة دينية. فقام انقلاب مايو 1969م اليساري، ظاهريّاً للحيلولة دون ذلك. فماذا فعل؟ كشف عن عميق انتمائه للأيديولوجيا الإسلاموعروبية عندما قام بالتخلي عن علم استقلال السودان، وهو العلم الذي رفعته أفريقيا ليمثل علم استقلال أفريقيا، ولا تزال هناك أكثر من ثماني دول أفريقية تحمله كما هو أو استمدت أعلامها منه. فماذا فعل نظام مايو في صبح يساريته الظالعة تبك؟ قام بتبني علم جامعة الدول العربية الذي يرمز فيه اللون الأسود إلى كل ما هو سيء، فتصوروا! ولا غرو! فإذا كان الحزب الشيوعي قبل ذلك بعامين، في مؤتمره العام الرابع، قد أعلن إيمانه بالأمة العربية، وجدد التزامه بمشروع القومية العربية، مؤكداً التزامه بالعمل من اجل تحقيق الوحدة العربية، فكيف لا تكون أولى قرارات ذلك النظام هو التخلي عن علم استقلال أفريقيا وابتوجه نحو ابتدار الوحدة العربية ثلاثيا (السودان ومصر وليبيا) ولاحقا رباعيا بانضمام سوريا، ريثما يتهاوى جبل الرمل سريعا. ولا غرو! فمفهوم “الأمة” هو نفسه من منتجات مؤسسة الدولة الوطنية الحديثة التي تأسست بموجب اتفاقية ويستفاليا في عام 1648م، ما يعني أن الدولة الوطنية هي المعمل الذي تتشكل وتتبلور داخله الأمة متى ما توفرت لها العوامل من حيث معاملة الدولة لجميع مواطنيها بالتساوي والعدل. وعليه، مفهوم القومية العربية ليس فقط مجرد مفهوم أيديولوجي يقع خارج دائرة مؤسسة الدولة الوطنية، بل هو مفهوم بوضعه هذا لا يمكن أن يتحقق إلا عبر تفكيك ذات مؤسسة الدولة الوطنية. بمعنى أن نطلق العصفور الذي في يدنا على أمل اصطياد العصافير التي تصدح في الأشجار، فتخيلوا! فهل بعد هذا يحق لأحد أن يستغرب كيف ولماذا انتهى نظام مايو إلى مجرد دولة دينية، فكأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا!
*الخلايا النائمة للأيديولوجيا الإسلاموعروبية: هد المعبد فوق رؤوس الجميع*
وهكذا لعبت قوى الصف الاول للأيديولوجيا الإسلاموعروبية دورها كاملا في تهيئة الجو لانهيار وتسييل مؤسسة الدولة الوطنية، ولكنها دفعت في ذلك ثمنا كبيرا جعلها “تشيل وش القباحة” وتفقد بالتالي شعبويتها (وليس شعبيتها). وعليه، لم يبق من بد غير أن تتقدم
الخلايا النائمة للأيديولوجيا الإسلاموعروبية لإكمال المهمة، وهي مهمة هد المعبد فوق رؤوس الجميع، بالضبط كما فعل نيرون عندما حرق روما، وهو ما نعيشه الآن.
وحتى لا نصرف من الكلام أكثر مما يجب، دعونا نأخذ قحت بوصفها رأس الرمح في الخلايا النائمة للأيديولوجيا الإسلاموعروبية، لنرى ما فعلته ولا تزال تفعله.
*الخيانة الاولى:* عندما اندلعت الثورة، لم تكن هناك قحت، وحتى عندما انتصرت الثورة ونصب الثوار اعتصامهم أمام القيادة العامة بموجب وعيهم الثوري، ودون أي توجيه من قحت. وقد ظل هتاف الثوار الخالد هو: *تسقط تاني وتالت ورابع!* ثم الهتاف الخالد الذي تقرحت به حناجر الثوار في الاعتصام: *مدنياااااااااو!* فماذا فعلت قحت؟ بكل بساطة عقدت نيتها وبيتت أمرها على التفاوض مع اللجنة الأمنية لنظام الكيزان وبمعية ميليشيات الجنجويد. وهذا ما سعت إليه قحت وظلت تعمل على تحقيقه برغم علمها التام برفض جماهير الثورة لأي شراكة مع العسكر والجنجويد. ولكن قحت ظلت سادرة ضلالها المقيم لا تلوي على شيء. وبالفعل، توصلت قحت إلى عدة اتفاقات مع لجنة البشير الأمنية ومعها مليشيا الجنجويد. ولكن قحت لم تتمكن من تغيير موقف الجماهير الرافض التي أصرت على مقاطعة قيادات قحتةبالهتاف الخالد: *مدنياااااااااو!* فالمهم أن يشاركوا في الحكم ولو عبر خيانة الثورة والشعب!
*الخيانة الثانية:* عندما عجزت قحت تماما عن تمرير اتفاقاتها مع العسكر والجنجويد، ذلك لاتحاد كلمة المعتصمين ورفضهم لأي اتفاق، هنا صُنعت الشروط المنطقية لفض الاعتصام. فقد توصلت قحت إلى عدة صيغ اتفاقات مع العسكر والجنجويد ولكنها عجزت تماما عن تمرير ما اتفقت عليه. وبالفعل تم الاتفاق بين العسكر والجنجويد وقحت (وكذلك كتائب الكيزان – وقد اعترفت بهذا قحت نفسها)، على فض الاعتصام. وهنا لا يهم إذا كانت قحت لا تعلم بطريقة فض الاعتصام أو أنهم ضللوها، إذ يكفيها من الخيانة أنها وباعتراف قادتها كانوا يعرفون ذلك. وهكذا خانت قحت ذات الجماهير وذات الشعب الذي ادعت أنها تمثل ثورته وتعمل على تحقيق شعارات وأهداف ثورته. فالمهم أن يشاركوا في الحكم ولو عبر خيانة الثورة والشعب!
*الخيانة الثالثة:* بمجرد فض الاعتصام وبتلك الوحشية غير الإنسانية، اتخذت قحت قرارها بقطع الاتصال مع العسكر والجنجويد، ومن ثم العودة إلى موقف الشعب الثوري المتمثل في مواصلة الثورة، تحقيقا لشعار *تسقط تاني وتالت ورابع!* وكذلك شعار *مدنياااااااااو!* ولكن سريعا ما تراجعت قحت عن قرارها ذلك ومن دون أن تتخذ قرار يلغي قرارها الأول، وكانت هذه هي الخيانة الثالثة التي ارتكبتها قحت في حق الثورة والشعب السوداني. فالمهم أن يشاركوا في الحكم ولو عبر خيانة الثورة والشعب!
*الخيانة الرابعة!* بعد عودتها المخزية إلى التواصل مع العسكر والجنجويد ودخل التفاوض مرحلة صياغة الوثيقة الدستورية، لم تفشل قحت فحسب من حيث انتداب ضعاف العقول والقلوب والأهلية لصياغة تلك الوثيقة، بل ضعفت عن أن تحافظ على صيغة واحدة لها ولو كانت مليئة بالثقوب كالغربال، بل تساهل مع العسكر والجنجويد لدرجة أنه حتى الآن لا يعرف الشعب على وجه اليقين كم نسخة توجد من هذه الوثيقة المثقوبة وهي مختلفة عن أخراها. وبهذا أطلقوا يد العسكر والجنجويد في كل مفاصل الفترة الانتقالية. فالمهم أن يشاركوا في الحكم ولو عبر خيانة الثورة والشعب!
*الخيانة الخامسة:* نصت الوثيقة الدستورية في بعض نسخها المعلنة على أن يكون مجلس السيادة ذا سلطة رمزية يمثل السيادة، ولكن، إما عبر نسخ أخرى غير معلنة، أو بطريقة “السُّكات رُضا”، تفاجأ الشعب والثوار بأن مجلس السيادة ليش مجرد مجلس بسلطات رمزية، بل هو مجلس سيادي رئاسي. وقد نجم عن هذا اختطاف المرحلة الانتقالية تماما من قبل عسكر وجنجويد مجلس السيادة، بما يعني تهميش حكومة قحت برئيس وزرائها الباهت. وقد خرج الثوار في عدة مليونيات دعما وتقويةً لحكومة قحت ولكن كما يقول المثل “مرمي الله ما بترفع”! وقد بلغ تجاهل قحت لجماهير الشعب السوداني درجة أن رئيس حكومتها لم يكلف نفسه مشقة الخروج لملاقاة تلك الجماهير. فقد انزووا جميعا! فالمهم أن يشاركوا في الحكم ولو عبر خيانة الثورة والشعب!
*الخيانة السادسة:* كان كل ذي عينين وفؤاد، بخلاف قحت وحكومتها ورئيس وزرائها، يعلم أنه بمجرد انتهاء فترة رئاسة العسكر والجنجويد لمجلس السيادة أنهم لن يسلموها لقحت. ولماذا يفعلوا ذلك وقد أثبتت قحت لهم أنها ليست فقط أضعف من أن يؤبه لها، بل أثبتت لهم المرة تلو الأخرى أنها أضيق القوى السياسية صدرا بالجماهير والثوار! وعليه، فهم ليسوا سوى نخب أفندوية ذاقت طعم الحكم ولا تريد أكثر من ذلك. وبالفعل، وقع انقلاب 25 أكتوبر 2021م، قبل شهر واحد من تسليم قيادة مجلس السيادة لمدنيي قحت. وتم اعتقال رئيس الوزراء! وبينما كانت الجماهير تملأ الشوارع دعما لقحت والحكومة قحت ولرئيس وزراء حكومة قحت، خرج رئيس وزراء حكومة قحت من مخبئه ليبارك ما فعله العسكر والجنجويد [كذا والله]! عندها لم تملك الجماهير وبوعيها الثوري الاستثنائي أن اجترحت هتافها الذي سيخلده التاريخ: *حمدوك الني! الشارع حي!* فتصوروا نحن لا نطالب رئيس الوزراء الذي هتفت ضده بهذا الهتاف جماهير شعبه أن ينتحر، لكن لا أقل من أن يتوارى خجلا. لكن إذا به يلجأ إلى الدولة التي ترعى الحرب ضد بلده وشعبه بالمال والسلاخ، ثم بعد كل هذا يريد أن يعود ليحكم. ألا ما أصدق المثل: *”اللي اختشوا ماتوا”!* لا غرو أن تبعته قحت في سقطاته هذه بطريقة وقع الحافر على الحافر. فالمهم أن يشاركوا في الحكم ولو عبر خيانة الثورة والشعب!
*الخيانة السابعة:* برغم كل هذا، أرادت قحت أن تعود إلى طاولة المفاوضات مع العسكر والجنجويد، ولكن الجماهير كانت تقف لها بالمرصاد. فالجماهير كانت قد أبدعت وابتدعت لها هتافات جديدة من قبيل: *”يا برهان ثكناتك أولى .. مافي مليشيا بتحكم دولة”!* ثم زادت عليها بعد انقلاب 25 أكتوبر أعظم قراراتها الثورية المتمثلة في اللاءات الثلاث: *”لا تفاوض .. لا شراكة .. ولا شرعية”!* ثم ألحقته بهتافها الذي ستخلده التاريخ والأجيال: *”الثورة ثورة شعب .. والسلطة سلطة شعب . والعسكر للثكنات .. والجنجويد ينحل”!* وهنا أُسقط في يد قحت! فهي تريد أن تعود لطاولة المفاوضات! فالمهم أن يشاركوا في الحكم ولو عبر خيانة الثورة والشعب! ولكن لجان المقاومة هي العقبة! إذن فلتذهب لجان المقاومة إلى الجحيم! وهكذا انحدرت قحت من حالقٍ إلى ساحقٍ، ذلك عندما أصبح جل همها تفكيك لجان المقاومة وإضعافها، لدرجة أن تحاول أن تكون بها مليونيات باسم قحت، دون لجان المقاومة، فتصوروا! هنا تصدى لهم “غاضبون بلا حدود” وكذلك “ملوك الاشتباك”. فما ملكت قحت من أمرها رشدا! فجاء العسكر والجنجويد إلى نصرتها، أولا بالقمع الوحشي للجماهير في مليونياتها، وبفتح النيران الحية فتساقط رتل الشهداء والشهيدات، وشرعت المؤسسات العدلية في تدبيج التهم واختلاقها، نصرةً منها لقحت، فكانت محاكمات توباك ورفاق توباك، وما أدراك ما توباك! أسماء لشباب تسطع في سماواتنا كالنجوم الزاهرة. وقحت في غيها القديم! فالمهم أن يشاركوا في الحكم ولو عبر خيانة الثورة والشعب!
*الخيانة الثامنة:* وعادت قحت إلى المفاوضات مع العسكر والجنجويد متحديةً في ذلك الشعب وثورة الشعب وكل شعارات الثورة. وكان الاتفاق الإطاري، وما حواه من اتفاقات تحت الطاولة. وهنا ظهر “الحاوي” الذي كان موجودا منذ بداية الثورة، لكنه لم يكن يجرؤ على الظهور بهذه الدرجة: إنها دويلة الإمارات العربية المتحدة التي ظهر أنها امسك بخيوط اللعبة. وهنا أيضاً تكشفت النوايا المبطنة لقوى الإمبريالية العالمية المتمثلة في ضرورة تسييل الدولة الوطنية السودانية بغرض إعادة تقسيمها على دويلات إماراتية صغيرة، ذلك بوصفه بداية المخطط الإمبريالي الكبير بكل أفريقيا والشرق الأوسط. بعيد السقوط السياسي لنظام الكيزان، ذهب وفد صغير من قحت (طبعا بدون تفويض من مجلس قحت) إلى دولة الإمارات العربية المتحدة. هناك، بحسب تسريبات شخصية، أبلغهم بعض كبار المسئولين بالدولة بالتهديد التالي: تمشوا معانا في خطنا، سوف نجعل من السودان دبي أفريقيا؛ ما تمشوا معانا في خطنا، سوف نجعلكم مثل ليبيا. هكذا! بكل بساطة! فما هي الخطة: تعود حليمة لي قديمها! جميعهم (العسكر والجنجويد وقحت) يعودون إلى شراكتهم السابقة، مع وضع أفضلية لمليشيات الجنجويد لا يمكن أن يقبل بها اصغر عسكري في الجيش: دمج مليشيات الجنجويد في 10 سنوات كاقتراح من قحت مقابل فترة 15 سنة اقترحها حميدتي، وإسقاطا لفترة العامين التي اقترحها قادة الجيش. ما هو الهدف من هذا؟ أن تتمكن مليشيات الجنجويد من ابتلاع الجيش والدولة، ربما في فترة لا تزيد عن 5 سنوات. ومن ثم طفقت قحت وبوقاحة وقوة عين تتحدث وتهدد بأنه إما الاتفاق الإطاري بصيغته تلك، أو الحرب! لماذا؟ ليعودوا إلى الحكم ولو على أشلاء الوطن والشعب. فالمهم أن يشاركوا في الحكم ولو عبر خيانة الثورة والشعب!
*الخيانة التاسعة:* واندلعت الحرب وجميع الشعب والعالم يعلم من هو الذي بدأها. فالذي بدأها هو الذي استعد لها وبادر بتحريك قواته عبر الأقاليم، وفتح النيران في كل المدن والأقاليم في وقت واحد، بل طفق مقاتلوه يهتفون في الساعة الرابعة والنصف صباحا (أي قبل الساعة الخامسة وتمثيلية المدينة الرياضية) وهم يقولون: “مسكنا الخرطوم! مسكنا السودان”! ولكن هيهات. لكن كل هذا ليس سوى تحصيل حاصل. فالحروب تقوم عندما تتوفر عواملها، وتصبح في حكم الضرورة. فوجود جيشين داخل مؤسسة الدولة الوطنية هو مدعاة للحرب ما لم يتم تفكيك أحدهما، إما لصالح الآخر (وهو ما سعت إليه قحت عبر تفكيك الجيش لصالح مليشيات الجنجويد وهذه هي الخطة A)، أو عبر انهزام أحدهما لصالح الآخر (وهو ما سعت إليه قحت بوصفه الخطة B وظلت تهدد به). وهكذا وقعت قحط فيما يراه الكثيرون على أنها الخيانة العظمى، ولا تظل سادرة في غيها القديم. فالمهم أن يشاركوا في الحكم ولو عبر خيانة الثورة والشعب!
*الخيانة العاشرة:* ثم بعد الأسبوع الأول من الحرب اتضح لكل ذي عينين وفؤاد معافى أن هذه الحرب التي أشعلتها وشنتها مليشيات الجنجويد المجرمة ليست ضد الجيش أو فلول النظام والكيزان (فالجنجويد هم أنفسهم فلول لنظام الكيزان، وفيهم من الكيزان وقيادات الكيزان ما يفوق ما عليه الوضع في الجيش)، بل هي:حرب ضد الشعب السوداني وضد كيان الدولة السودانية. وهنا لا نحتاج انصرف ولو ربع كلمة فيما فعلته مليشيات الجنجويد المجرمة في الشعب السوداني في الخرطوم بمدنها الثلاث وفي الجزيرة ومدني، ثم على وجه الخصوص ما فعلوه ولا زالوا يفعلونه منذ عشرين عاما على أقل تقدير في دارفور الصامدة، ثم كردفان. فهذا تحصيل حاصل. في كل هذا تمثلت خيانة قحت للشعب السوداني في أنها دخلت الحرب وهي على اتفاق تام مع مليشيات الجنجويد ثم ها هي حتى الآن في اتفاق تام معها. هذا لدرجة تشكل رأي عام يأن قحت (والآن “تقدم”) هي الحاضنة السياسية لمليشيات الجنجويد المجرمة. لماذا كل هذا؟ صدقوني، في احسن الأحوال ليثبتوا نخبويتهم وأفندويتهم، ذلك من حيث الاحتفاظ بالامتيازات ولو على حساب الشعب والوطن (وهو ما نأخذ به حاليا)، أو هي الخيانة العظمى كما يذهب آخرون يتزايد عددهم كل يوم. أي أن كل المهم بالنسبة لهم هو أن يشاركوا في الحكم ولو عبر خيانة الثورة والشعب!
وبعد، لن تنفعهم صرخاتهم الهيستيرية بمقولات الفلول. فالحزب الذي أسسه حسن الترابي (مفلفل الفلول نفسه) معهم؛ واليوم قبل الغد إذا وافق جيش الفلول هذا على التشارك معهم في الحكم، هللوا له وكبروا.٧ وإلا فيم ولماذا جوبان الآفاق وعواصم الدول للضغط على جيش الفلول حتى يجلس معهم ويتفاوض بموجب الشراكة التي أرسوها في الاتفاق الإطاري؟ ولقد حكموا لعامين ونصف، فلم يفككوا هيمنة الفلول على مفاصل الدولة، فلماذا وكيف سيفعلوها وقد قبلوا بالفلول، ممثلين في جيش الكيزان هذا، كشركاء لهم في الحكم، ولا يزالون يطالبون بعودة هذه الشراكة.
مثل هذه الحجج هي نوع من الاستثمار في الجهل وتكريس الغباء. فالحقيقة الماثلة للعيان هي أن قحت وكل قوى المشهد السياسي بالداخل ليسوا سوى الصف الثاني من قوى الأيديولوجيا الإسلاموعروبية، إنهم الخلايا النائمة لهذه الأيديولوجيا وقد تحركت وقليلا ما قليلا، سوف ينكشف عنها قناع الخداع والكذب ليكشف عن الغباء الأيديولوجي في أسوأ تجلياته.
*ضرورة فرز الكيمان*
في كل كتاباتي خلال الثلاثين عاما الماضية وأكثر، وبالذات في كتبي الأخيرة، ظللت أكرر وأردد، وأنبه ما أمكنني ذلك، إلى ضرورة فرز الكيمان.
هؤلاء جميييييعهم هم آكلو مال السحت من لفيف كمبرادورات التبعية الإمبريالية، ربائب منظمات المجتمع المدنى الدولية والمحلية. هؤلاء هم الذين يخونون وطنهم وشعبهم بلا أي حساسية. إذ لو استيقظ فيهم الضمير، لانتحروا غير مأسوفٍ عليهم، إذ لا بواكي لهم، ولكن هيهات، هيهات لميت الضمير أن يحيي. فميت الروح سوف يُنفخ فيه وتُردّ له الحياة، لكن ليس ميت الضمير.
فما الحل بالنسبة لهؤلاء المتاعيس؟ لا حل لهم! أللهم إلا أن يكون الحل هو المزيد والمزيد من خداع الذات، بطريقة: أنا أخون، فأنا إذن موجود!
*MJH*
جوبا – 21 يناير 2024م