جنوب السُّودان.. ماضيه وصيرورته (15 من 21)
✍️ الدكتور عمر مصطفى شركيان
shurkiano@yahoo.co.uk
مهما يكن من شأن، ففي مقولة للواء (م) جوزيف لاقو أنَّ حجة أهل الشمال حين حرموا أهل الجنوب من المشاركة في الوظائف الرفيعة في السُّودان في فجر الاستقلال هي أنَّ الجنوبيين لم ينالوا قسطاً من التعليم، وبعد أن تعلَّموا أتى أهل العقد والحل في الخرطوم بالشريعة الإسلاميَّة لتكريس حرمانهم من تبوُّء الوظائف العليا في الدولة حسبما ورد في تفاسيرهم للنصوص الإسلاميَّة، بحجة أنَّه لا يجوز أن يرأس غير المسلم المسلمين. غير أنَّ في كل ذلك كان يقبع عنصر هام ظلوا لا يتحدَّثوا عنه جهاراً، إلا في مجالسهم الخاصة ونواديهم الاجتماعيَّة المغلقة إسراراً، ألا وهو العنصريَّة البغيضة. فكانوا – وما زالوا – يرون ألا يمسي من يتَّخذ الأفريقانيَّة هُويَّة له رئيساً للبلاد، ولهذا ظلم بوَّاح لأهل الجنوب قبل انفصالهم وجبال النُّوبة والفونج ودارفور، مما يجعل السُّلطة في السُّودان حكراً على أهل الوسط والشمال النيلي، أو ما بات يُعرف اصطلاحاً ب”مثلث حمدي”. كل هذا التحايل ضرب من التعنصر، ولم يدفعهم في هذا شيء غير الغيظ وكان غيظاً ذا زفير، وما نقوله من الأقاويل ليست بالتُّهم الطوائش، بل هي الحقائق المجرَّدة من أي تدليس أو تلبيس.
وفي الحق، لا يستطيع كائن من كان ذا عقل سليم وبصيرة مستبصرة أن يرتاب في أنَّ الدِّين أي دين ظلَّ أداة لتعقيد المشهد السياسي، ووسيلة لإثارة مشكلات اجتماعيَّة واضطرابات ثقافيَّة في العصور القديمة والحديثة على حدِّ سواء. هذا ما دفع الأديب النيجيري الأريب وول سوينكا أن يهجو القادة الدِّينيين في مسرحيَّته “محاكمات الأخ جيرو” (1969م)، وفي روايته الساخرة “سجلات بلاد أسعد النَّاس على وجه البسيطة” (2021م). فحين سُئل سوينكا عن الدور الذي يمكن أن يلعبه الدِّين في نيجيريا، ردَّ قائلاً إنَّ الدِّين ظلَّ عنصراً جذَّاباً في بيئته منذ الطفولة. فالطالب الذي يلتحق بالمدرسة الدِّينيَّة وهو مقهور فيها، وضعيف في مستواه العلمي فكيف يكون بارعاً في العلم، قادراً على توجيه الأمَّة وتربيتها بعد التخرُّج؟ علي أيَّة حال، لقد تمَّ غرس الدِّين في عقل سوينكا وهو ما زال طفلاً، وحينها شبَّ عن الطوق ونضج وشرع ينظر بشيء من التدقيق شديد في بعض المزاعم الرُّوحيَّة والشخصيَّات الدِّينيَّة، وكان أغلبهم ذوي ألوان صارخة. في تلك السن المبكِّرة كان يرى سوينكا أنَّ ثمة شيئاً ما في التديُّن المستغلظ غير سوي، وقد قيل إنَّ الحقيقة تخرج من أفواه الأطفال. وما أن بات المجتمع أكثر ماديَّة وتشاؤماً وغير مبالٍ، حتى إنَّك لترى النَّاس تأخذ الدِّين بحذفاره في الأعمال الإجراميَّة. هذه شهادة للتاريخ من شخص ترعرع في بيت ديني، وكانت والدته متطرِّفة في أشد ما يكون التطرُّف في الديانة المسيحيَّة. وفي حقيقة الأمر ظلَّت والدته تؤمن أنَّ لديها اتِّصالات سريَّة مع الرَّب، وكلما أخطأت في شيء ما حتى طفقت تؤنِّب نفسها وهي زعيمة بأنَّها أغضبت الرَّب، وكان ابنها سوينكا يقول لها إنَّ الرَّب غير مهتم أو مبالٍ بما أنت فاعلة سواءً إن كنت قد سكبت الزيت في المكان الصحيح أم الخطأ، بل إنَّه لمشغول جداً بأشياء أخرى.
من سوء المنقلب أنَّ المثقف في العالم العربي عامة والإفريقي خاصة غالباً ما استرخص الحياة في أن يعيش في الأرض ذلولاً تحت وطأة الديكتاتور، وأن يستطيب العيش فيما يمكن أن يرفده به الطاغية في سبيل النعمة الزائلة عاجلاً أو آجلاً، إلا من اتَّخذ موقفاً آخر. ينبغي أن يكون دور المثقف في مجتمعه أن يخلص لمشروعه في الشعر أو النثر أو النقد أو غيره، ويحقق استقلال موقفه إزاء السلطة، لا أن يكون تعبيراً عنها، أو مسجِّلاً لما تريده منه، ناهيك عن ينحط إلى التعبير عمَّا لا يؤمن به من أجل المال. وتجدر الملاحظة هنا أنَّ هناك قلة من أولئك الذين ناصروا الشعوب المقهورة حين انتفضت ضد جلاديها من زبانية الحكام الظلمة في سبيل الانعتاق من قيود الطغاة. إذ تجدر بنا العودة إلى نيجيريا ووقفة مع الأديب الألمعي سوينكا. ففي العام 1965م كانت محطة الإذاعة في غرب البلاد على وشك إعلان نتائج الانتخابات المزوَّرة من أجل شرعنتها. إذ كان ينبغي وقف إذاعتها في النَّاس حتى تجد المعارضة النيجيريَّة متسعاً من الوقت لمجابهة الخداع والتزوير اللذين مورسا في الانتخابات. ففي تلك الحال انبرى سوينكا، والذين كان يبلغ من العمر حينئذٍ 31 عاماً، وحمل غدارته في جيبه، وتسلَّل إلى مبان الإذاعة وأوقف إعلان النتائج تحت تهديد السِّلاح. وقد تحدَّث سوينكا عن هذه الأحداث في مذكِّراته الموسومة “ينبغي عليك الانطلاق عند الفجر” (You Must Set Forth at Dawn) العام 2006م.
كان الإقليم الغربي في نيجيريا يضطرب بالأحداث الجسام، وقد شعر سوينكا بأنَّه محروم من حقه الشرعي في الخوض في الحراك الذي يمور. إذ جلب عليه تصرُّفه الاعتقال والمحاكمة، لكنه أُطلِق سراحه نسبة لخطأ إجرائي في المحاكمة. بعد عامين من تلك الحادثة اتَّسعت الانقسامات السياسيَّة في نيجيريا، وصعب رتق الفتق في النسيج الاجتماعي، وأمست الحكومة المركزيَّة غير مقبولة. حينئذٍ قامت مجموعة من صغار الضباط في الجيش بعمليَّة انقلابيَّة، إلا أنَّ المحاولة لم تكُلَّل بالنجاح. كان أغلب المشاركين في المحاولة الانقلابيَّة من إثنيَّة الإقبو، وكان أكثر الساسة الذين تمَّ اغتيالهم من شمال نيجيريا. إزاء ذلك الوضع شرع النَّاس في الشمال ينظرون إلى الانقلاب بأنَّه عمل إقبوي (نسبة إلى إثنيَّة الإقبو)، ومن هنا تعرَّض الآلاف من الإقبو إلى مذابح دمويَّة، وتمَّت مهاجمتهم واعتقالاتهم ومطاردتهم والتحرُّش بهم في أقاليم نيجيريا الأخرى، وفرَّ معظمهم صوب الشرق، وذلك حين أخذ أي فرد إقبوي من أهله يفر بنفسه من أمه وأبيه وعشيرته التي تؤويه. ففي ذلك الرَّدح من الزمان أفرغت زوجة سوينكا نصف خزانة ثيابها من الملبوسات لأصحاب بعلها من الإقبو لباساً لهم، حتى يتنكَّروا بأزياء النِّساء، ويفلحوا في الهروب من غرب نيجيريا صوب الشرق، لذلك جاءت قصائد سوينكا تمجيداً لبعلته أسطولاً يحمل شعراً، علاوة على ما قصَّده على ابنته في مذكِّراته السالف الذكر. سوينكا الذي أمسى شهيراً قد تكلَّم مناهضاً الحكومة الفيديراليَّة لأنَّها لم تقدم على وضع حد لهذه المجازر، وكذلك استهجن مواقف بعض الإثنيَّات الأخرى التي اختارت الصمت تجاه هذه الأحداث المروِّعة: الصمت الذي يمكن نعته بالاشتراك في الجريمة “والساكت عن قول الحق شيطان أخرس”.
ففي الحين نفسه اختار الشرقيُّون الانفصال عن نيجيريا، وأعلنوا ميلاد دولة بيافرا. كان سوينكا متعاطفاً مع مظالمهم، لكنه لم يؤيِّد انفصالهم. وحين أعلنت نيجيريا الحرب عليهم، قاد سوينكا حملة سياسيَّة لوقف بيع الأسلحة للطرفين، ومن ثمَّ قرَّر أن يتسلَّل إلى بيافرا، ويحاول إقناع قائد التمرُّد في بيافرا بأنَّ الانفصال ليس هو الحل. غير أنَّ الاجتماع – من غير دهشة – لم يمض كما كان يتمنَّاه سوينكا. ولدي عودته إلى نيجيريا تمَّ اعتقاله على التو، وقضى عامين في السجن، وفي أغلب الأحايين في الحبس الانفرادي. ففي داخل السجن كتب واحداً من أروع أعماله الأدبيَّة “الرجل المتوفي: مذكِّرات السجين وول سوينكا” (The Man Died: Prison Notes of Wol Soyinka). وقد تمَّت كتابة مسودَّته على قصاصات الورق والمناديل الورقيَّة، ولغته في بعض الأحايين تميل إلى الإيجاز الشعري لرجل يستمسك بصحته العقليَّة.
للمقال بقايا باقيات،،،