حكومة الصَّادق المهدي (1986-1989م).. الديمقراطيَّة الشوهاء والممارسة البلهاء 8 من 9
الدكتور عمر مصطفى شركيان
في آب (أغسطس) 1988م اختلف العقيد الليبي معمَّر القذافي مع المعارض التشادي الشيخ بن عمر، الذي ظلَّ حليفاً له ردحاً من الزمان، ومن ثمَّ تمَّ اعتقاله في ليبيا؛ حينئذٍ فرَّ 2.000 من مقاتليه في المجلس الديمقراطي الثوري إلى دارفور، يقتلون وينهبون، ويسبِّبون دماراً وخراباً مستعظمين، ويعيثون في المنطقة فساداً. بعدئذٍ جرت مصالحة بين الشيخ بن عمر من ناحية، والرئيس التشادي حسين هبري من ناحية أخرى، واعتزمت قوَّات ابن عمر البالغ قوامها 2,000 مسلحاً، والمتواجدة في دارفور، على الاستسلام إلى القوَّات التشاديَّة. وفي سبيل إحباط هذا الاستسلام أغرى الليبيُّون مجموعة من قبيلة حجازي بالهجوم على هذه القوَّات الراغبة في الاستسلام في كانون الأول (ديسمبر) 1988م؛ وفي تلك الأثناء عبرت القوَّات الوطنيَّة التشاديَّة الحدود، ودخلت دارفور لمساندة قوَّات ابن عمر – أي الحليف الجديد – المحاصرة في دارفور. إذ قُتِل 122 من المقاتلين وعدد غير معلوم من المدنيين في المعارك التي تلت، ثمَّ تصاعدت الاشتباكات، وتمَّ قتل 96 شخصاً في 15 شباط (فبراير) 1989م، و40 آخرين في يوم 17 شباط (فبراير)، حتى تشابه الأمر لدي الجميع، حيث لم يكد يدري أحدٌ مَنْ ذا الذي يحارب مَنْ؟ في تلك الأثناء منحت واشنطن الجيش السُّوداني 45 عربة مدرَّعة خفيفة لتأمين حدود دارفور ضد الإغارات الليبيَّة. الفكرة كانت غريبة وغبيَّة لدرجة البلاهة لأنَّ الليبيين كانوا أساساً متواجدين داخل إقليم دارفور، أي دخل الحدود السُّودانيَّة. وبما أنَّ الجيش السُّوداني كان في حال يأس يؤوس وبحث دؤوب عن المعدَّات القتاليَّة في سبيل حربه في جنوب السُّودان، إزاء ذلك ذهبت هذه العربات إلى جهود القوَّات المسلَّحة السُّودانيَّة لمحاربة الجيش الشعبي لتحرير السُّودان.
مهما يكن من أمر، ففي الفترة ما بين 1-2 نيسان (أبريل) 1989م حاول اثنان من الضباط التشاديين من إثنيَّة الزغاوة، وهما إدريس ديبي وحسن جاموس، اغتيال الرئيس التشادي حسين هبري، ولكنهما أخفقا في محاولتهما، وفرَّا إلى أدري. تمَّ إلقاء القبض على حسن جاموس بواسطة القوَّات الوطنيَّة التشاديَّة، وتعرَّض لاحقاً للتعذيب الشديد حتى الموت، لكن إدريس ديبي، الذي جُرح، استطاع الهروب إلى دارفور، واحتمى بالمساعدة الليبيَّة، لأنَّ في ذلك الحين من الزمان – كما أوضحنا بشيء من الإيضاح شديد – كانت دارفور قد باتت تحت النفوذ الليبي تماماً، وخاضعة لسيطرة طرابلس.
إنَّ احتلال دارفور بواسطة ليبيا كان يعني إذعان القبائل الزنجيَّة-الإفريقيَّة (بخاصة الفور) لها، واستلام القبائل العربيَّة مقاليد الأمور في الإقليم. هذه العمليَّة الاحتلاليَّة كانت في الطريق: العملة الليبيَّة هي المستخدمة، والسفر مباشرة بين الكفرة والفاشر، وتعامل الحكام في دارفور مباشراً مع طرابلس دون الرجوع إلى الخرطوم، واكتظاظ الإقليم في أكثر ما يكون الاكتظاظ بالأسلحة الليبيَّة، التي كان يتم تسليحها إلى العرب البدو (…)، ومن ثمَّ أخذ شباب الفور يفكِّرون بأنَّ الاحتجاج السلمي ظلَّ عديم الفائدة، وشرعوا يبحثون عن المساعدة من الجيش الشعبي لتحرير السُّودان.
في 29 نيسان (أبريل) 1989م سافر كل من إدريس ديبي ومبارك الفاضل المهدي إلى طرابلس وهما في عُجالة من أمرهما بحثاً عن مساعدة من ليبيا لقيادة الأول حملته المستقبليَّة ضد غريمه السياسي حسين هبري. أخذ ديبي معه معلومات في غاية الأهميَّة إلى الحكومة الليبيَّة لأنَّه حين كان ضابطاً في القوَّات الوطنيَّة التشاديَّة كان على رأس الاتصال بقائد الجبهة الوطنيَّة لإنقاذ ليبيا العقيد خليفة حفتر عبد القاسم، وكانت وكالة الاستخبارات المركزيَّة الأمريكيَّة تدعم الأنشطة المعارضة ضد القذافي في تشاد. هنا اغتبط القذافي فرحاً، وأعطى حليفه الجديد إدريس ديبي كل ما أراد. هذا الدعم الليبي السخي الذي منحه القذافي إلى حليفه الجديد إدريس ديبي قد تُرجِم في دارفور في شكل حرب أكثر ضراوة. لعلَّ 3 آلاف من قبيل المسيريَّة في كردفان الذين سال لعابهم في سبيل المال الليبي، قد عبروا إلى دارفور لمساندة أبناء أعمامهم الرزيقات، واشتعل القتال حتى أقرَّت الحكومة بمقتل 453 شخصاً. في واقع الأمر، وصلت أكثر من 1.060 شاحنة ليبيَّة إلى كُتُم في مستهل حزيران (يونيو) 1989م لتزويد الإمدادات العسكريَّة المخزونة في ساق النعام. بعدئذٍ أصبحت أيَّام الصَّادق في الحكومة معدودات. وفي 30 حزيران (يونيو) 1989م سقطت حكومته كأنَّها حُزمة أوراق اللُعبة في يد الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة في انقلاب عسكري قاده العميد يومئذٍ عمر حسن أحمد البشير.
دعنا نعد القهقرى إلى فيضانات النيل في الخرطوم كما أشرنا إلى ذلك سلفاً، وفي تلك الفيضانات شهدنا في الصَّادق أمراً عجباً. يا تُرى ماذا جرى؟ أما ماذا جرى فذلك قصة أسطوريَّة أغرب من الخيال، وسنحاول أن نرويها بدقَّة في أشدَّ ما تكون الدقة حتى تتضح الصورة، ويستبين أمرها. صعد رئيس الوزراء السيِّد الصَّادق المهدي إلى طائرة عاموديَّة (الهليكوبتر) للطواف فوق العاصمة المثلثة لتفقد أحوال الرعيَّة، والوقوف على حجم الخسائر الماديَّة والبشريَّة التي أحدثتها مياه النيل الفائضة. إذ توقع النَّاس أن يجلس الصَّادق بالقرب من نافذة الطائرة حتى يستطيع أن يرى مياه النيل التي امتدَّت حتى غمرت الأحياء السكنيَّة، ودمَّرت المنازل والممتلكات، لكن كان للصَّادق رأي آخر، حيث انتبذ لنفسه مكاناً قصيَّاً، واقتعد في مؤخرة الطائرة. وما أنَّ هبطت الطائرة بعد طواف الإفاضة حتى هرول الصحافيُّون نحوها لالتقاط تصريحاً من سليل المهدي رئيس الوزراء! إذاً، بم صرَّح السيِّد رئيس الوزراء الصَّادق المهدي؟
لقد صرَّح رئيس الوزراء الصَّادق المهدي لائماً النازحين، حيث قال عنهم إنَّهم أحاطوا بالعاصمة إحاطة السوار بالمعصم، حتى بنوا سدَّاً منيعاً حال دون تصريف مياه الفيضانات، التي بدورها لم تستطع أن تنفذ إلى الخلاء الواسعة. لوم النازحين ملامة خشنة كتلك كان محبطاً للصحافيين الذين توقَّعوا سبباً أكثر عقلانيَّة، وهو إخفاق الحكومة في حفر تصاريف المياه، وتوفير مآوي آمنة للنازحين. بيد أنَّ لومهم، بما هم فيه من ظروف اجتماعيَّة قاسية بسبب الحرب التي فشلت الدولة سياسيَّاً في حلها، أو عسكريَّاً في حسمها، وكوارث الجفاف والتصحُّر، التي أخفقت الدولة أيضاً في درء آثارها، يعتبر نمطاً من الإساءة، أو كما تقول الفرنجة “إتباع الجُرح بالإساءة” (Adding insult to injury).
للمقال خلاصة،،،