البَطَلَةُ أُمُّ البَطَل! .. ضَـيفٌ على الرُّوزنامـة
بقلم: محمَّد جلال هاشم/مفكِّر وشاعر وأكاديمي
عدت من مناطق الزراعة الآلية بجنوب غرب ولاية النيل الأبيض، ولدى وصولي إلى كوستي، وبمجرد تنشيط خدمة الإنترنت، صعقني خبر رحيل أستاذي، وصخرتي، وسند ظهري، ومن ظللت استعصم به لثلاثين عاماً، بروفيسور هيرمان بيل (1933م – 2023م)، عالم النوبيات الذي أفنى 70 عاماً من عمره في دراسة اللغات النوبية، وتاريخ الحضارة النوبية، ذلك الرجل الذي أحبّ السودان والسودانيين بصورة عامة، والنوبيين بصورة خاصة، فبادلوه حباً بحب.
ولد هيرمان بيل في مدينة ريتشموند بولاية فرجينيا بالولايات المتحدة الأمريكية، ودرس وتخرج في جامعة برنستون. بعد ذلك جاء إلى أرض أجداده إنكلترا، ودرس علم المصريات Egyptology بجامعة أوكسفورد (الكلية الجامعية University College). هناك كان ضمن أساتذته عالم المصريات الشهير السير ألان قاردنر. وهناك أيضاً، في أخريات الخمسينات، وفي لقاء طلابي عفوي بمبنى في شارع وودستوك Woodstock، التقى برفيقة عمره آن بيل التي كانت وقتها طالبة بجامعة أوكسفورد، كلية القديس هيو St. Hugh’s College، وكانت وقتها كلية خاصة بالبنات فقط (لاحقاً، بعد أن حوّلوها إلى كلية مختلطة، سوف يدرس بها ابنهما جوردان بيل، وينال فيها دكتوراة الفلسفة، حيث يدرّس الآن في كلية بيليو Balliol College، بنفس الجامعة). بعد ذلك تحول هيرمان بيل إلى دراسة اللغات النوبية مع بداية ستينات القرن العشرين. فقد انضمّ إلى مشروع اليونيسكو الرامي، وقتها، لإنقاذ آثار النوبة من الغرق جراء بناء السد العالي بأسوان، بوصفه طالب دراسات عليا بجامعة نورث ويستيرن North Western بالولايات المتحدة، حيث نال درجة الدكتوراة في اللغات النوبية عام 1969م. وقد سلك هيرمان بيل في رسالته للدكتوراة مسلكاً وعراً لا يقدر عليه إلا ذوي العزم والعلم الراسخين. فقد جاء إلى اللغات النوبية من مدخل صعب، ألا وهو علم الأسماء الجغرافية Toponymy، ومصدر الوعورة فيه هو أنه، في جوهره، متعدد المساقات، ذلك لأن الأسماء الجغرافية تشتمل على اللغة والتاريخ والجغرافيا مجتمعةً، هذا بجانب أنّ الاسم الجغرافي دائماً ما يتحوَّر ويتغير عبر التاريخ. وقد أتقن هيرمان بيل قواعد اللغات النوبية، مع إجادة واحدة منها (نوبين Nobiin) لدرجة التخاطب بها بطلاقة.
بمجرد حصوله على الدكتوراة، عاد هيرمان عام 1970م إلى السودان لينضم إلى هيئة التدريس بجامعة الخرطوم (وحدة أبحاث السودان ــــ لاحقاً معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية) ليرأس شعبة اللسانيات. وعندما شرع السودانيون في الهجرة إلى بلاد البترول، سعياً منهم لتحسين أوضاعهم الاقتصادية، سافر معهم هيرمان بيل حيث انتهى به المقام هناك في جامعة الرياض رئيساً لشعبة اللغة الإنكليزية. وقد ظل بها إلى أن تقاعد للمعاش في عام 1990م، حيث عاد إلى المدينة التي درس بها وعشقها، أوكسفورد، ليقضي باقي عمره متنقلاً ما بين وطنه الثاني، إنكلترا، ووطنه الثالث، والسودان، في رحلات مكوكية قد تتكرر عدة مرات في العام الواحد، مع زيارات قليلة لوطنه الأول، أمريكا.
وفي عام 2022م توعك قليلا، وعند الفحص الطبي، تم تشخيص مرضه: سرطان المثانة! فخضع للعلاج، وعندما ظننا جميعاً بأنه قد تماثل للشفاء، ظهر عليه نفس المرض مرة أخرى، لكن في الرئة. هنا وقف الطب عاجزاً عن فعل أي شيء نسبةً لتقدمه في العمر، فعاش شهوره الأخيرة ينام ويصحو متصالحاً مع الموت، في شجاعة مجيدة، غير هيابٍ، ودون أن يفقد روح الدعابة حتى آخر لحظاته. لمثل هذا الرجل النبيل، تُذرف الدموع وتتقطع نياطُ القلوب!
الثلاثاء
نقلت لنا الأخبار والأسافير نص خطاب الفريق مليشيوي/ محمد حمدان دقلو (حميدتي)، حيث قال: “إننا في قوات الدعم السريع ملتزمون بما ورد في الاتفاق الإطاري بخصوص مبدأ الجيش الواحد وفق جداول زمنية يتفق عليها، كما أننا ملتزمون، بصدق، بالانخراط في عمليات الإصلاح الأمني والعسكري، بصورة تطور المؤسسة العسكرية، وتحدثها، وتزيد من كفاءتها، وتخرجها من السياسة والاقتصاد كلياً، وتمكِّنها من التصدي الفعال لكل ما يهدد أمن البلاد وسلامها”.
التساؤل هنا ليس عما إن كان الرجل صادقاً فيما قال، بل عما إن كان مدركاً لتبعات ما قال! ذلك لأنّه ينبغي أن يفهم جيداً:
(أولاً) أنّه لا يمكن بالمرة لجيش مهني أن تسيطر عليه أسرة؛ (ثانياًً) أن تحُّقق ما يطالب به يعني أن يتحوّل هو وشقيقه عبد الرحيم دقلو وباقي أفراد أسرته إلى مجرد مدنيين؛
(ثالثا) أن خروج المؤسسة العسكرية من الاقتصاد والسياسة، يعني، بالضرورة، مراجعة مواردها المالية، وعندها يتوجب عليه، هو بالتحديد، كقائد لمليشيا إثنية متهمة بنهب موارد البلاد، أن يكشف عن موارده المالية. فالبرهان إذا تقاعد، لن يأخذ معه موارد الجيش، كما ولن يرثه أبناؤه وأشقاؤه، فإذا كان حميدتي صادقاً فيما يقول، فعليه أن يكون مستعداً لتبعات ذلك، فهل هو فعلاً كذلك؟ مصدر تشكيكنا في صدق ما قال، أو إدراكه لتبعاته، هو كلامه هو في نفس خطابه حول ضرورة إنهاء الأزمة: “.. والوصول لحل سياسي نهائي عاجل تتشكل بناءً عليه سلطة مدنية انتقالية تقود البلاد، ونعود نحن في المؤسسة العسكرية إلى ثكناتنا لنتفرغ لأداء مهام حماية حدود البلاد وأمنها وسيادتها”. فكلامه هذا إنما يعني أنه يخطط للاستمرار كقائد عسكري على قمة الجيش في مرحلة ما بعد حل الأزمة! وأن قوانين إحالة الضباط للمعاش (بالذات رتبة الفريق والفريق أول، وهي مدد لا تزيد عن ثلاث و أربع سنوات، إلا استثناءً، كما رأينا ضمن فساد الإنقاذ)، ليس فقط لا تشمله، بل هو يهيء نفسه لشرعنة عسكريته المليشيوية بأن يصبح ضمن طاقم قيادة الجيش بعد إنجاز الإصلاحات الأمنية، فتصوروا!
حميدتي، هنا، إما أنه لا يدرك، أو يدرك لكن لا يعبأ، بأن الإصلاحات الأمنية سوف تعني، أول شيء، التخلص من أي شخص يحمل رتبة عسكرية دون أن يكون مستوفياً لشروط استحقاقها! في هذا الصدد، لا حميدتي ولا شقيقه، مع الغالبية العظمى لأفراد إثنيته، قد استوفوا أدنى الشروط الفنية للرتب العسكرية التي يحملونها. أو أنه يتلاعب بالكلمات، ويتكرم بالوعود التي يضمر، في دخيلة نفسه، نيَّة عدم تطبيقها!
أخيراً، لا يمكن تحقيق إصلاح أمني بين قوتين عسكريتين مستقلتين إلا بنزع السلاح، والتسريح، وإعادة الدمجDisarmament، Demobilization & Reintegration أي ما يعرف بالأحرف (DDR). وهذه إجراءات معروفة عالمياً، وتشرف عليها الأمم المتحدة. هذا من حيث الشكل، أما من حيث المضمون، فلا مجال لإجراءات DDR مع مليشيا الجنجويد. فالمطلب الثوري والشعبي هو: “الثورة ثورة شعب! والسلطة سلطة شعب! والعسكر للثكنات! والجنجويد ينحل”! وبالطبع، هذه معركة لا تزال رحاها دائرة بين الشعب من جانب، والعسكر والجنجويد ومن والاهم من جانب آخر. والتاريخ علمنا أن إرادة الشعوب لا تُغلب، لأن إرادة الشعوب من إرادة الله.
الأربعاء
جاء في الأخبار من العاصمة الأثيوبية أديس أبابا منع ممثل إسرائيل من حضور جلسات قمة الاتحاد الأفريقي المنعقدة يوم 19 فبراير الجاري بصفته مراقباً. كما حملت، أيضاً، تصريحات السيدة ناليدي باندور Naledi Pandor، وزيرة خارجية جنوب أفريقيا، بلغة قوية وصريحة، تبرّر فيها رفض بلادها منح إسرائيل صفة المراقب في المنظمة، لأنها بأفعالها وسياساتها تجاه الفلسطينيين تخالف ميثاق الاتحاد الأفريقي. ومن المعلوم أن أحد أخطر مؤتمرات الأمم المتحدة من حيث إدانة سياسات إسرائيل المنتهكة لحقوق الشعب الفلسطيني لدرجة استحقاقها وصف الأبارتايد apartheid، كان قد انعقد في مدينة ديربان عام 2001م، ألا وهو المؤتمر الدولي لمناهضة العنصرية World Conference against Racism in Durban حيث انتهى بواحدة من أقوى الإدانات لدولة الكيان الإسرائيلي، واصماً لها بأنها دولة عنصرية تقوم على نظام الفصل العنصري. هذا نموذج حي يكشف عن كيف تقوم بعض الدول باتباع سياسة خارجية ملتزمة بالقيم والأخلاق، ورامية إلى تأسيس عالم بلا عنصرية. هذا الموقف المشرِّف يتماشى وتاريخ المعاناة التي تفوق التصور والخيال التي عاش فيها الأفارقة السود تحت ظل دولة الفصل العنصري البيضاء. هكذا تحارَب العنصرية والتمييز العرقي، وليس عبر سياسات الخضوع للضغوط والانكسار التي خضعت لها مجموعة كبيرة من الدول الأفريقية التي قامت بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل. من جانبنا، نحن السودانيين، لا يمكن أن نقبل بأي حكومة (ديموقراطية أو ديكتاتورية) أن نتجه نحو تطبيع علاقاتنا مع دولة إسرائيل في ظل انتهاكها المؤسسي للحقوق الأساسية للفلسطينيين. النقطة الهامة هنا أن موقفنا هذا في المقام الأول لا ينبغي أن يقوم على التعاطف مع الفلسطينيين أو غيرهم، بل على الالتزام بضرورة التخلي عن أي سياسات تنتهك من الحقوق الأساسية لأي مجموعات بشرية بصرف النظر عمن هي هذه المجموعات البشرية. إن اتباع مثل هذا الموقف الناصع تكمن ضرورته في أنه يجعلنا، في المقام الأول، قادرين على معالجة العنصرية في بلادنا التي تقوم فيها الحروب الأهلية بين من يُنظر إليهم على أنهم عرب ضد من يُنظر إليهم على أنهم أفارقة (زُرقة)، بينما الجميع أفارقة!
الخميس
ما بين تتريس طريق الشمال وتتريس ميناء بورسودان مشتركات بمثلما هناك مفترقات. المشترك الأعظم هو أن هناك مظالم تاريخية يعاني منها أهلنا في الشرق متمثلة في أن بلادهم هي معبر غالبية واردات السودان وصادراته، تمر عبرهم ومن خلالهم دون أن ينالوا منها شيئاً! ثم بعد كل هذا تقوم الدولة بإبرام اتفاقية بخصوصهم مع من ينظر إليهم أهلنا البجا على أنهم لا يمثلونهم. وكذلك الأمر في الشمال الطارد لسكانه نسبةً لقلة الموارد، ذلك طالما كان إقليم الشمال يعتمد على زراعات الأرض المتاخمة لشاطئي النيل، هذا بينما تقوم دولة جارة هي مصر التي لا ترعى فينا إلاًّ ولا ذمةً بسرقة موارد البلاد الحية وغير الحية، الحيوانية، والزراعية، والمعدنية، هذا بعد احتلال أراضينا، وعلى عينك يا تاجر، لتقوم بتصديرها على أنها منتجات مصرية! هذا بينما ترسل لنا محصول الفاكهة المروية بمياه المجاري، وكل المنتجات الفاسدة التي لا تصلح حتى كطعام للحيوانات. أما المفترقات فعلى رأسها أن اهلنا في الشرق عندما تقطعت بهم السـبل، من حـيث تجـاهل الدولـة لهــم، لـم يجـــدوا غـيـر إداراتـهـم الأهلية التي فعلت أمــراً عجيباً، ألا وهو التحالف مع العسـكر والجنجويد الذين يتحملون المسئولية الكبرى والمباشرة عن مخرجات اتفاقية سلام جوبا التي لم تحقق أي سلام. فكان أن تواطأت قيادات الإدارة الأهلية هذه مع العسكر لإغلاق الميناء، وتتريسه، بهدف إسقاط الحكومة المدنية التي لا تتحمل مسئولية اتفاق سلام جوبا. فملف السلام انتزعه العسكر من الحكومة المدنية في مخالفة صريحة للوثيقة الدستورية، وبالتالي أصبح العسكر والجنجويد مسئولين عن كل ما يتمخض عن اتفاق جوبا. ثم إن المصدرين والموردين لم يجدوا من سبيل بخلاف الاعتماد على موانيء الدولة الجارة التي لو خيروها بين جنةٍ عرضها السموات والأرض، وبين خراب السودان، لاختارت خراب السودان! في الجانب الآخر، يقوم تتريس طريق الشمال لوقف نهب موارد البلاد لنفس هذه الدولة الجارة من قبل حفنة من بائعي أوطانهم، وحفنة أخرى من ماسحي الجوخ لمصر من ساستنا المدنيين والعسكريين. فاللذان يعانيان، في خاتمة المطاف، من هذه القسمة السياسية الضيزى، هما الشعبان الكـريمان السوداني والمصـري، فلهما الله، ولهما التحية، خصوصاً لأهلنا في الشرق والشمال وكل أقاليمنا وربوعنا.
الجمعة
مرت، قبل أيام الذكرى الحادية عشر لرحيل فنان أفريقيا وفرعون الغناء، محمد وردي، لكن في صمت وحداد حقيقي للحالة المزرية التي تمر بها بلادنا. فالبلاد التي تغنى لها وردي من كلمات الهرم الآخر، الفيتوري: “لو لحظةٌ من وسَنِ/ تغسلُ عني حزَني/ تحملُني تُرجعني/ إلى عيونِ وطني”! لم تعد هي نفسها البلاد الواعدة التي اشرأبّت إليها أعناق الرجال والنساء، منتصف القرن العشرين، وهي تتشوّف رحيل المستعمر وتعمل من أجله وتحلم بوطن الهرم الآخر الذي احتضنته الأرض هو أيضاً، محجوب شريف: “وطن حدَّادي مدَّادي/ وطن عاتِي/ وطن خيّر ديموقراطِي”!
لقد تقلّص هذا الوطن بفعل بعض أبنائه وبناته، ذلك عندما أداروا ظهورهم للثقافات السودانية، وتعددها، وتنوُّعها، وبالتالي تكريسها لمكامن الذكاء فينا وتوليده، ثم أقبلوا بهمّة على الأيديولوجيا الإسلاموعروبية التي تزيّف الواقع، وتصنع وعياً واهماً، ثم لا تنتهي بهم إلا إلى تكريس الغباء. من كان يتصور أن الأيديولوجيا الإسلاموعروبية يمكن أن تخسف الأرض بالسودان لثلاثين عاماً حسوما، ليخرج من تحتها مهيض الجناح، ناقص الوزن، ومضيّع السيادة، تتكالب علينا كلابُ الدُّنيا وهوامها لتتآكّلُنا من كل اتجاه!
لا غرو فقد انحدرت الثقافة العربية إلى درجة انعدام القدرة على الكتابة والقراءة بين الكثير من طلبة الجامعات؛ وكان ذلك أحد أكبر ضحايا لوثة الأيديولوجيا الإسلاموعروبية؛ وكذلك رأينا كيف تمرّغ من بشروا الشعب بربط قيم السماء بالأرض في قاذورة أكل مال السحت وكيف أصبحوا يعيثون في الأرض فساداً، يقتلون النفس التي حرّم اللهُ قتلها إلا بالحق. وهكذا انهارت القيم الإسلامية السودانية العريقة، ذلك عندما سقطوا في ذات معاييرهم التي اصطنعوها لأنفسهم. ومن يسقط في معيار قيمه، يصبح غير جدير بأن يحكم مباراة قدم في الليق، دع عنك أن يحكم شعباً عظيماً مثل الشعب السوداني!
للخروج من هذا المأزق، علينا أن نفتح خياشيمنا الفكرية لرياح الحرية، والعدل، والسلام، وأول مدارج الحرية هي التملّي في الجمال البحت، ألا وهو الموسيقى والغناء في كامل تجلياته الثقافية المتعددة عندنا، وبصورة أعم وأشمل علينا أن نملأ رئاتنا من الفن بجميع أنواعه وأشكاله، فالجمال هو الحل، والجمال هو الأخلاق، ثم أولاً وآخراً الجمال هو الله.
السبت
قمت، في معية محاميه، ووالدته، وشقيقه الطفل، وبعض ذويه، بزيارته في محبسه بسجن الهدى شمال غربي أمدرمان. هناك لمست بحواسي الخمس لحظة المجد عندما تشعر بأنك في حضرة بطل نادر واستثنائي. جلسنا داخل أحد المكاتب في انتظاره، فجاء يمشي وعيناه تتقدان ذكاءً، وحياةً، ونضالاً، وقوةً. كان في محبسه كالأسد في قفصه، يشعُّ مهابةً ويتوهج كاريزما، متمتعاً بكامل قواه العقلية، ومتفهماً لوضعه دون أن يتصالح معه أو ينكسر. تحلقنا حوله، وقد تضاءلنا جميعاً أمام شخصيته ذات الحضور الطاغي، هذا الصبي الذي لم يبلغ العشرين بعد. هناك اجتاحتني رياح الأمل وازددتُ اقتناعاً بأن هذا الشعب عظيم طالما لا يزال ينجب مثله ورفاقه. تحدث عن المعاملة الجيدة التي يلقاها في محبس الهدى، مقارنةً مع ما كان يلقاه في أماكن أخرى. قال كل هذا وبهدوء وبدون أي انفعال، بل بتفهم جيد وواقعي، ثم بتسامي نبيل فوق أحزانه ومعاناته، سائلاً عما يلاقيه الآخرون، مشفقاً عليهم. دون أن تفارقه روح الدعابة، أو طرافة التلميحات، فتراه يضحك بقلبٍ صافٍ، ويفترُّ ثغرُه عن أسنان بيضاء. المثل يقول: الْعَصَا مِنَ الْعُصَيَّةِ! فلا غرو أن اسم والدته (نضال)، فتأمَّلوا!
كانت تسبيحتُه هي التوصية على أسر الشهداء والجرحى، وفيما عدا ذلك ظل يردد بأنه مجرد شاب ثائر يؤمن بالثورة السلمية، وأنه سوف يعود إلى صفوف الثوار بمجرد أن يخرج من محنته هذه، ذلك عندما يحصحص الحق، وتظهر الحقيقة. أثناء كل هذا، كان يضم شقيقه الصغير الذي لم يتجاوز السادسة من العمر إلى صدره بين رجليه مداعباً له. وهو في اتكاءته تلك بين قدمي شقيقه الأكبر المناضل، ورأسُه في حجره، استغرق الطفل في نومٍ عميق لم يفق منه إلا عندما انتهى زمن الزيارة، وتهيأنا للمغادرة. يكشف هذا عن درجة معاناة هذه الأسر، أسر الشباب المناضلين، الشهداء، والجرحى، بشيبها، وشبابها، وأطفالها، وعاشت الأسامي أيَّتها “المناضلة البطلة نضال”، أم “المناضل البطل .. توباك”!
الأحد
شاهدت، قبل يومين، مقطعاً عجيباً من فيديو قصير لإحدى عمليات تسعة طويلة في سوق ليبيا بغربيِّ أم درمان، كان الذي يولِّي هارباً في وضح النهار هو الضَّحية! وكان شاباً دون الثلاثين، بينما كان الجناة، وعددهم حوالي أربعة، يمشون الهوينى، غير مبالين، وهم يتأملون وجوه السابلة حولهم في تحد، بحثاً عن صيد ثمين آخر! كل هذا والناس تتفرج كما لو أنهم ألفوا مثل هذه الحادثة، أو أن الأمر لا يعنيهم في قليل أو كثير. هذه بالطبع واحدة من عشرات الحوادث اليومية في طول البلاد وعرضها.
مثل هذه الحادثة ينبغي أن تنبهنا إلى إنها نُذُير لانهيار الدولة! البعض قد يقول بأن الدولة قد انهارت بالفعل، لكن هذا الكلام غير صحيح. فعندما تنهار الدولة، تختفي، أول ما تختفي، مؤسساتها، وبالذات مؤسسات العنف الرَّسمي: البوليس، والأمن، والجَّيش، والقضاء، قبل الخدمة المدنية بكل أشكالها! فالدولة في أحد تعريفاتها هي المؤسسة التي تحتكر استخدام العنف، وذلك عبر الدستور والقانون. وبهذا تتمكن الدولة من توفير أعلى قيمة مدنية، حضارية، ألا وهي أمن المواطن.
أما انهيار الدَّولة فيجري على مدى زمني طويل، لكن لحظة الانهيار الأخيرة فتحدث فجأةً وبدون أي إنذار، إذ يصبح الناس، ليكتشفوا عدم وجود البوليس والجيش، كما الوزارات والبنوك! عندها لن يكون في مقدور أي انسان أن يقوم بمشوار لنصف كيلومتر إذا لم يكن مسلحاً، والمحظوظ من كان يملك .. مدفع دوشكا!
***