آراء

في صمت البرهان كلام صارخ

جعفر عباس

اليوم الخامس والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، كان الذكرى الأولى لقيام قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان، بالاستيلاء على السلطة بعد تحريك المجنزرات والمدرعات وحاملات الجند واعتقال الوزراء المدنيين والقيادات السياسية، وكان ذلك بزعم “تصحيح مسار ثورة ديسمبر”، التي حققت نجاحا جزئيا بالإطاحة بحكومة حزب المؤتمر الوطني ورئيسها عمر البشير، وأعقب تلك الإطاحة تشكيل حكومة تنفيذية مدنية، بينما بقي مجلس السيادة (رئاسة الدولة) شراكة بين العسكر والمدنيين.

ولكن لم يفتح الله على البرهان أو أبواقه بكلمة واحدة في تلك الذكرى، ليقول للشعب ماذا أنجز في تصحيح المسار، أو أي مسار سلكته حكومته في عامها الأول، وكان البرهان قد قال في بيان إشهار الانقلاب؛ “إن الشعب السوداني رفض أن يحكمه فرد أو فئة لا تؤمن بالحرية والسلام والعدالة”، فإذا به وطوال العام الماضي ينفرد بسلطات رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء، ويضع جميع الحقائب الوزارية تحت سلطته المباشرة، أي إنه الدولة، أي لويس السودان الرابع عشر!

ورغم حرصه الشديد على نفي أن استيلاءه على السلطة يمثل انقلابا عسكريا، إلا أن البرهان المشهود له بفلتات اللسان، قال في ذلك البيان؛ إن “القوات المسلحة تعمل على إكمال التحول الديمقراطي حتى تسليم قيادة الدولة لحكومة مدنية منتخبة”، ولم يخطر بباله أنه لن يغيب عن أحد، أن القوات المسلحة لا تدير أمور بلد ما إلا بعد انقلاب عسكري، وأن رجلا قلب الحكم بالقوة، لا يمكن أن يؤتمن على إجراء انتخابات تقود إلى حكم مدني.

ومنذ ظهوره على مسرح الحكم بعد سقوط حكومة عمر البشير، والبرهان يثبت أنه إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، فقد تعهد مرارا وهو رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش بقمع أي محاولة انقلابية، فإذا به رأس الحية الانقلابية، وفي بيان انقلابه الأخير، تعهد بإجراء انتخابات حرة في تموز/ يوليو من عام 2023 أي بعد 9 أشهر من الآن، بينما الإحصاء السكاني الذي ينبغي أن يسبق الانتخابات، يستغرق 18 شهرا إعدادا وتنفيذا، كما تعهد بتحسين معاشات الناس بجعل السلع الاستراتيجية رخيصة الثمن، فإذا بجنوده وقوات أمنه تثبت أنه في ظل الحكم الانقلابي، فإن ما هو رخيص هو فقط حياة المواطن، لأن تفريق المظاهرات والاحتجاجات المناوئة للبرهان، يتم بالذخيرة الحية.

وفي بيان الانقلاب ذاك قال البرهان: “سنحرص على إكمال مطلوبات العدالة والانتقال، وإنشاء مفوضية صناعة الدستور، ومفوضية الانتخابات، ومجلس القضاء العالي، والمحكمة الدستورية، والمجلس النيابي قبل نهاية شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الحالي”، أي في غضون شهر من استيلائه على السلطة، ولم تقم قائمة لأي من تلك المؤسسات؛ لأن قيامها سينتزع صلاحيات من يد البرهان، الذي يريد أن يكون الكل في الكل في أمور الحكم والأمر والنهي والتنفيذ.

ربما نشطت جينات الحياء في البرهان، فلم يحتفِ بالذكرى الأولى لانقلابه؛ لأنه بات مدركا أنه لم ينجز شيئا من وعوده الانقلابية، وأن صحائفه خلال العام المنصرم حمراء قانية، وربما لسان حاله؛ إن يكن صمتي مريبا / إن في الصمت كلام



ولو كان البرهان يملك مثقال ذرة من الحس السياسي أو الأمني، لكان قد طلب اللجوء إلى إحدى دول الجوار أو إسرائيل خلال الأيام القليلة الماضية، ففي الذكرى الأولى لانقلابه خرج آلاف قلوبها مؤتلفة على دحر الانقلاب في تسع مدن، وتعامل معها جند البرهان بالسحل والقتل بالرصاص وبالرش بمياه معالجة كيميائيا؛ بحيث تسبب الجروح والقروح والدمامل، وبالدهس بالمركبات الثقيلة، وتأكيدا لحقيقة أن مصاب الشعب السوداني أليم في قواته النظامية، خرجت الشرطة السودانية على الناس ببيان يمسح بالملح على الجرح، قالت فيه؛ إن من خرجوا في مواكب التنديد بالانقلاب في ذكراه الأولى، كان في طليعتهم “قوات مدربة بتشكيلات عسكرية مسلحة تتبنى العنف والتخريب بزي موحد.. يحملون الدروع الشخصية وقنابل الغاز والمولوتوف (البنزين الحارق).. وقادتهم يوجهون ويصدرون التعليمات للمجموعات بأسلوب  الكر والفر، وقطع الطرق والاعتداء على المواقع العسكرية بصورة متكررة”.
 
كل هذا التهويل من أمر مواكب كلها متلفزة في بث حي ومباشر، ويردد المشاركون فيها بصوت واحد: سلمية، سلمية ضد الحرامية، كان فقط لتبرير العنف الأهوج ضد كل من يرفع صوته مطالبا بسقوط السلطة الانقلابية، ثم مضى بيان الشرطة ليناشد “وزارة العدل والجهاز التشريعي بفرض إجراءات  استثنائية لتمكننا من مواجهة تلك الجماعات لحسم الفوضى، وردع وتقديم الجناة للعدالة الناجزة والمحاكمات الإيجازية لبسط هيبة الدولة وإحكام سيادة القانون، حفاظا على أمن الوطن والمواطن”، وبعيدا عن عدم وجود مجلس تشريعي في البلاد، فهذه مطالبة صريحة بإعفاء رجال الشرطة من المساءلة القانونية على تجاوزاتهم ضد المواطنين، بل والسماح لها باختصار الإجراءات القانونية تجاه من يخضعون للاعتقال، بحيث يتسنى مثولهم امام “محاكم كنغارو”، لا تقيم وزنا للإجراءات المتعارف عليها في سوح القضاء.

ثم كان ما كان من أمر قيام ضابط شرطة رفيع الرتبة، بمخاطبة عسكره مؤخرا لتذكيرهم بكيفية التصدي للشغب بقوة السلاح، قائلا: “تقتل اثنين او ثلاثة منهم” ليرتدع الآخرون، ومذكرا رجاله أنهم ينتمون إلى ما أسماها “قبيلة الشرطة”، وكانت تلك دعوة مفضوحة لـ”مناصرة أخيك في القبيلة ظالما”، وكانت تصريحا من المتحدث بأنه يعطي الانتماء لسلك الشرطة أولوية على الانتماء إلى الوطن، واعترافا بأن الشرطة في خدمة البرهان وليس الشعب.

وربما نشطت جينات الحياء في البرهان، فلم يحتفِ بالذكرى الأولى لانقلابه؛ لأنه بات مدركا أنه لم ينجز شيئا من وعوده الانقلابية، وأن صحائفه خلال العام المنصرم حمراء قانية، وربما لسان حاله؛ إن يكن صمتي مريبا / إن في الصمت كلام. أو لأنه وعد في تموز/ يوليو الماضي بإخراج الجيش من الملعب السياسي، وتجري حاليا مفاوضات بين قوى مدنية والقيادات العسكرية لترتيب ذلك الخروج، وما يعوق وصول الطرفين إلى معادلة مقبولة في هذا الصدد، هو مطالبة البرهان وصحبه بالإعفاء من المساءلة القانونية على أي تجاوزات ارتكبوها خلال انفرادهم بالسلطة، بينما الشعار الذي لا يني معارضو الانقلاب يرددونه، هو “يا عسكر ما في (لا) حصانة: المشنقة أو الزنزانة”.

Author

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى