آراء

مرة أخرى وغير أخيرة، حول دولة النهر والبحر الوهمية

الدكتور محمد جلال هاشم..

الدعوة العنصرية التي تحمل اسم “دولة النهر والبحر” تمثل عندنا مرحلة انهيار الأيديولوجيا الإسلاموعروبية وهي أخطر مراحل الأيديولوجيا حيث تتصرف بطريقة عليَّ وعلى أعدائي. إنها طريقة نيرون في حرق روما، وطريقة هتلر في تدمير ألمانيا؛ وطريقة صدام حسين في تدمير العراق ليتم إعدامه بتلك الطريقة التي قُصد منها أن تكون مهينة إلى أقصى الحدود. ثم هي قبل كل هذا تمثل كذلك آخر مراحل “الكوزنة”، من حيث عدم الإيمان بالدولة الوطنية: وبالتالي يواصلون في استكمال مشروع الكيزان الرامي لتفتيت وتفكيك الدولة الوطنية، وهو أوقفته ثورة ديسمبر 2018م المجيدة. ولهذا أطلقنا عليهم اسم “الكيزان الجدد”، لا غرو أن قيادة هذه الدعوة المنهزمة ذاتياً جمييييعهم يشهد ماضيهم بأنهم لم يكونوا فقط “كيزان”، بل كانوا ممن يُشار إليهم من قبل قادة “الكيزان” فيطيعون. ثم هذه الحركة تجد الرعاية الكاملة من محور الشر.
أول ما يمكن ملاحظته عن هذه الحركة غير الوطنية أنها تكره نفسها رفضاً لحقيقة كونهم جميعاً أفارقة مستعربين؛ فهم لا يكرهون شيئا كما يكرهون ذواتهم؛ ولذلك وصفناهم بأنهم “كارهو ذواتهم”، ولهذا أيضا وصفناهم بأنهم “منهزمون ذاتياً”، وهل يمكن لمن يكره نفسه إلا أن يكون منهزما ذاتياً؟ فهم مجرد أفارقة سود (مع لون فاتح شوية، لكنه قطعا أقل فتوحا من لون حوالي 95% من السود في الأمريكيين وأوروبا وفي داخل أفريقيا نفسها)، لكنهم لا يكرهون شيئا كما يكرهون أفريقيا السوداء.
الملاحظة الثانية هي أنهم في تكتيكاتهم يستهدفون العناصر المستضعفة، مثل سكان الكنابي في مشروع الجزيرة، والعمالة اليدوية غير الماهرة القادمة من دارفوروخلافها والتي بدونها لحدثت أزمة في العمالة غير الماهرة. فليسألوا أنفسهم ما الذي أتى لسكان الكنابي أصلا إلى مشروع الجزيرة؟ وهل كان يمكن لهذا المشروع أن ينجح من أصله لولا سكان الكنابي؟ هنا تجدهم يتوقُّون بالمجموعة الإثنية الكبيرة مثل الكواهلة والجعليين ورفاعة وغيرهم، ذلك بغية استنفار هذه المجموعات الثقافية ضد المجموعات المستضعفة التي يستهدفونها، مستغلين بعض التصرفات الفردية ليقوموا بتعميمها، ومن ثم البدء في الصراخ والعويل بطريقة “وا معتصماه!”، ذارفين دموح التماسيح. وأصل الاستهداف وقاعدته هي العنصرية البغيضة. هكذا يتم الزج باسم هذه المكونات الإثنية ليس لتوريطها في مجملها في أعمال تطهير عرقي تشبه شكلا وموضوعا ما حدث في دارفور بل أيضاً بغرض التوقِّي والتَّدَرُّق خلفها بحيث يتم توجيه الهجوم نحوهم حتى يخلق هذا استقطابا إثنيا يستفيد منه الواقعون تحت هيمنة الأيديولوجيا الإسلاموعروبية في حربهم الخاسرة هذه.
الملاحظة الثانية بخصوص تكتيكاتهم هي أنهم أنفسهم يتظاهرون بالضعف وأنهم مستهدَفون من قبل المجموعات الأفريقية السوداء [كذا] القادمة من دارفور وجبال النوبة وإقليم الفونج بالنيل الأزرق. فماذا سيفعلون؟ إنهم (وهم نفسهم مجموعة النهر والبحر) يولولون من غير خجل، ثم يستنجدون بالكيزان الجدد الذين ليسوا سوى هم أنفسهم المنادون بدولة النهر والبحر، داعين لفصل جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور، فتصوروا! والاستنجاد بدولة النهر والبحر الوهمية ليس سوى تكتيك، الهدف منه تصوير وتوهُّم أن هناك شيئا موجودا في أرض الواقع اسمه “دولة النهر والبحر”.
الملاحظة الأهم هي أن هذه الدعوة لا يمكن أن تتحقق دون أن يتفكك السودان إلى دويلات صغيرة. وهاكم الدليل! فهؤلاء المهابيل المخابيل سبق أن وجَّهتُ لهم أسئلة لا تزال تبحث عن جواب، هي: هل مشكلتكم مع المناطق إياها كأرض، أم كبشر؟ إن كانت مشكلتُكم معها كأرض، فأنتم تحتاجون لعلاج نفسي. أما إن كانت مشكلتُكم مع هذه المناطق كبشر، ففي حال قامت دولتُكم الوهمية هذه، ماذا أنتم فاعلون لأهالي جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور وهم يملأون ومنتشرون في شمال كردفان وفي ولاية الجزيرة وفي ولاية سنار وفي ولاية الخرطوم نفسها وفي ولاية كسلا وفي الولاية الشمالية وفي ولاية نهر النيل وفي ولاية البحر الأحمر؟ ماذا أنتم فاعلون بهم؟ بالطبع، لم يُجيبوا عن هذا السؤال ولن يُجيبوا عنه! لماذا؟ لأن جميع مذابح دارفور والإبادة في جبال النوبة والنيل الأزرق (وقبلهم في جنوب السودان) سوف يبدو كلعبة أطفال في مواجهة ما يَخبـئونه لسكان هذه المناطق في حال قيام دولة النهر والبحر، هذه الدولة الوهمية! ماذا يا تراهم يَخبـئون؟ إنهم ينوون إبادتهم عن آخرهم حتى دون أن يسمحوا لهم بالمغادرة. كيف؟ عبر تحالف يسعون لإقامته مع الجنجويد الوافدين من الأفارقة المستعربين بدول الجوار الغربي الذين حرقوا دارفور وقتلوا أهلها الآمنين لا لذنبٍ جنوه بخلاف أنهم أفارقة سود لم يتحقق استعرابهم الكامل بعد. وأساس ترغيبهم للجنجويد هو أن استقرارهم بدارفور لا يمكن أن يتم طالما أن أهل دارفور لا زالوا يعيشون بالملايين في معسكرات اللجوء والنزوح، هذا مقابل ما لا يزيد عن 750 ألف من مستعربي الجنجويد المستوطنين الجدد. هذا بعد كل المذابح والإبادة التي تمت وتجاوزت المليون ونصف شخص. أفضل من هذا أن يأتي مستعربو الجنجويد إلى مناطق النيل بنيله وشماله، ثم إلى الأقاليم الشرقية، فيُعملوا سيوفَهم (أسلحتهم الفتاكة) قتلا وإبادة في أهالي دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، يشاركهم فيها شباب دولة النهر والبحر (الوهمية). هذا هو المخطط! وهو نفسه ينطوي على جملة تناقضات وتهويمات لا يمكن أن يصادفها الإنسان إلا في الرؤوس الذين سيطرت عليها الأيديولوجيا فخلقت فيهم الوهم، ذلك بعد أن قامت بتزييف الواقع. من ذلك، أولا، تبنيهم لموقف العرب العاربة (هذا بينما هم في حقيقتهم أفارقة سود مستعربون) في استئجار الأفارقة السود كجنود ليحاربوا عن العرب العاربة حروبَهم غير النبيلة (بالضبط كما يفعل السعوديون والإماراتيون في استئجارهم لمستعربي الجنجويد ليحاربوا في اليمن بالوكالة عنهم). ثانيا، عندما يوعدون مستعربي الجنجويد بوقوف شبابهم معهم في تقتيل أفارقة الأقاليم الثلاثة وإبادتهم تنظيفا لدولتهم الوهمية من السلالات الأفريقية. فهم في هذا كاذبون، كونهم يستبطنون ذات النظرة الدونية للبدو، أكانوا من البجا أو من بدو مستعربي دول الجوار الغربي. فهم يستدرجونهم ويرغبونهم حتى يقوموا بأقذر الأدوار غير الإنسانية التي يندى لها الجبين، بينما يبيِّتون النية على التخلص من هؤلاء البدو الأجلاف بمجرد إتمامهم لمهمتهم القذرة.
ثم إننا أطلقنا عليهم اسم “الكيزان الجدد” لسبب وجيه للغاية، ذلك لأنهم قد تصدوا لمهمة إكمال ما عجز عن إنجازه الكيزان، ذلك بسبب ثورة ديسمبر المجيدة التي أسقطت سياسيا دولة الإنقاذ (1) ثم الإنقاذ (2)، هذا بينما لا تزال دولة الإنقاذ (بمختلف تناسلاتها) قائمة اجتماعيا. وبهذا أثبتوا أنهم ليسوا فقط ينتمون للكيزان، بل هم أسوأ نسخة من نسخ الكيزان وأكثرها بلادةً، لأنهم ببساطة عاشوا حيثيات أعظم ثورة شعبية في تاريخ البشرية ولم يتعلموا منها شيئا، بالضبط مثل ملوك البوربون، لم ينسوا شيئا، كما لم يتعلموا شيئا.
هذا الموضوع، لي عودة له وسوف أعمل على تطويره ليصبح مقالا، ودمت يا وطني الجميل والعظيم! هذا الوطن الأفريقي الأسود والوحيد الذي ظل اسمه عبر التاريخ مرتبطا بالسواد. ثم لا تقلق يا وطني! فنحن الآن في أحلك لحظات الليل، ذلك لأننا كأقرب ما نكون للفجر. فجميع هذه المؤامرات سوف تذهب أدراج الرياح وتبقى إرادة الشعب، ذلك لأن إرادة الشعوب هي من إرادة الله.

Author

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى