يعارضون البرهان ويخدمون غاياته
جعفر عباس
يمارس الإنسان قليل الحيلة، أسلوب “رزق اليوم باليوم” لتسيير أمور حياته، ويكون بذلك بلا خطة لأي أمد من الزمان، بل يعمل لكسب القوت والرزق بمنطق لكل حادث حديث، ويترك للصدف أن تأتيه بالفرصة المناسبة ليغتنمها و”غدا يوم آخر”، وهذا هو حال حاكم السودان العسكري عبد الفتاح البرهان، الذي ظل يتخبط ويتكتك، ولكن بدون أي رؤية استراتيجية ولو لأسبوع واحد، لتكريس نفسه رئيسا وحيدا للبلاد، وكما صرح مرارا فهو عازف عن منصب رئيس مجلس السيادة الذي يمثل رئاسة الدولة الجماعية، والذي يضم نفرا اصطفاهم بنفسه، وقد أعلن في الرابع من تموز/ يوليو الماضي، أن المؤسسة العسكرية (يعني نفسه) زاهدة في الحكم والسياسة، وستكتفي بأن يكون لها مجلس عسكري عال، يتولى “فقط” شؤون الأمن والدفاع والسياسة الخارجية والاتصالات والبنك المركزي والطيران المدني وتصدير بعض السلع الاستراتيجية.
ولأنه يريد لمجلسه العسكري هذا أن يكون جسر عبوره للرئاسة، لأن أعضاءه بحكم أنهم عسكريون، وليس من حقهم عصيان أوامره بحكم أنه القائد العام للجيش، بل ولأنه من سيختارهم، سيحفظون له الجميل ويردونه إليه بمباركة جعله رئيسا لا شريك له؛ وتمهيدا لذلك قام البرهان بالإحالة إلى التقاعد عشرات الضباط من ذوي الرتب العالية، (وليخزي عين الشيطان ألحق بهم أربعة من شاغلي الرتب الصغيرة)، وغالبيتهم من الذين أنس منهم رفضا لعسكرة الحكم، وقام بترفيع رتب عدد من الضباط غير المغضوب عليهم إلى “فريق/فريق أول”، وسعد السودانيون بأن يحمل رئيس هيئة أركان الجيش رتبة فريق أول كي لا يضطر إلى مهانة أداء التحية مع تنكيس الرأس لمحمد حمدان دقلو (حميدتي) الذي يحمل تلك الرتبة وهو غير المؤهل حتى لرتبة وكيل عريف.
كان البرهان قد شجع القيادات العسكرية على عقد ندوات “داخلية” لمناقشة الشؤون العامة، أي تلك المتعلقة بأمور الحكم والسياسة، فوقف بعض كبار الضباط على المنابر وقالوا، ولو على استحياء، إن أمر الحكم والديمقراطية شأن مدني، ومنهم من أبدى استياءه من تفاقم نفوذ قوات الدعم السريع الموالية لآل دقلو (أسرة حميدتي)، فكان أن دفعوا الثمن بفقدان مناصبهم خلال الهوجة البرهانية الأخيرة.
ثم وبعد أيام قليلة من صدور قرارات انهاء الخدمات والترقيات لضباط الجيش، قرر البرهان خطب ود أحدهم فأوكل اليه منصبا رفيعا في وزارة الدفاع، التي، ومن الناحية العملية، لا سلطة لها على الجيش، ويقتصر دورها على توفير الرواتب والمعينات ويعض الأمور المكتبية الديوانية، لأن الأمر برمَّته بيد البرهان بوصفه القائد العام للجيش.
كان البرهان قد شجع القيادات العسكرية على عقد ندوات “داخلية” لمناقشة الشؤون العامة، أي تلك المتعلقة بأمور الحكم والسياسة، فوقف بعض كبار الضباط على المنابر وقالوا، ولو على استحياء، إن أمر الحكم والديمقراطية شأن مدني، ومنهم من أبدى استياءه من تفاقم نفوذ قوات الدعم السريع الموالية لآل دقلو (أسرة حميدتي)، فكان أن دفعوا الثمن بفقدان مناصبهم خلال الهوجة البرهانية الأخيرة،
والبرهان يعمل على توطيد دعائم حكمه والتمهيد للاستفراد بكرسي الرئاسة بالكذب والمداهنة وإحياء النعرات القبلية، وبالاستنجاد بالمشعوذين والزاعمين القدرة على إتيان الخوارق، يربض في خندق معارضته طابور طويل من الأحزاب؛ ثلاثة منها (الأمة، والاتحادي الديمقراطي، والشيوعي) من مواليد أربعينيات القرن الماضي، وتتراوح أعمار البقية ما بين خمسين سنة وثلاث سنوات، ولكن من الواضح أنها جميعا تفتقر إلى بوصلة: الأولوية لماذا؟ إسقاط نظام البرهان العسكري أم التعبئة لكسب العقول والقلوب تمهيدا لانتخابات حتمية مرتقبة؟ واستقراء راهن الأوضاع في السودان يفيد بأن تلك الأحزاب لا تبذل معشار الجهد المبذول لإشانة سمعة بعضها البعض، على جهد الإطاحة بالبرهان والطغمة العسكرية توطئة لإقامة حكم مدني يدعو الناس إلى صناديق الاقتراع لتأتي حكومة منتخبة.
وأكبر حزبين جماهيريين في السودان هما الأمة والاتحادي الديمقراطي، ولكن كليهما نشأ تحت مظلة طائفية وقيادة روحية، هما بيت المهدي للأمة وبيت الميرغني للاتحاديين، وقد تفتت الحزب الاتحادي إلى نحو خمس تنظيمات، وآل الميرغني تاريخيا من فئة “اللي يتزوج أمي أقول له يا عمي”، فما أن يحدث انقلاب إلا هرعوا لمباركته، ثم آلت مقاليد الحزب لشباب بيت الميرغني في السنوات الأخيرة فعملوا على إقصاء القيادات ذات القدرات التنظيمية والفكرية العالية، فتشظى الحزب الذي كان يوما ما يجتاح الإنتخابات البرلمانية، وهناك اليوم أحزاب اتحادية مناهضة لحكم البرهان وأخرى تسير على خط المراغنة وتوالي البرهان أو “تلعب على حبلين”.
أما حزب الأمة، والذي خرج من مظلته البعض ليوالوا حكم عمر البشير، فقد ظل منذ تأسيسه خاضعا للقيادة الروحية ومن ثم السياسية لآل المهدي، ورغم أن معظم تصريحات الكوادر القيادية فيه ترفض حكم البرهان والعسكر، إلا أن رئيسه الحالي (وهو ضابط متقاعد سبق أن كان عضوا في المجلس العسكري الذي تشكل برئاسة عبد الرحمن سوار الذهب عقب الإطاحة بديكتاتورية جعفر نميري في 1985)، فتارة يداهن البرهان، ثم يزعم أنها زلة لسان، وتارة يتمترس في خندق معارضيه، مما يعطي الانطباع بأن هناك تقاسما للأدوار بين قيادات الحزب: نوالي المعارضة علنا ونعمل “تحت الطاولة” على منح البرهان والعسكر نصيبا من كعكة الحكم.
الحزب الشيوعي السوداني صغير من حيث الثقل الجماهيري، ولكن قدراته التنظيمية أعلى من بقية الأحزاب، وقد ظل في خندق معارضة “الحكومة”، حتى قبل انقلاب البرهان الأخير في 25 تشرين أول/ أكتوبر الماضي، أي أنه كان رافضا لحكومة عبد الله حمدوك التي تشكلت نتيجة تراض بين العسكر والقوى المدنية التي أطاحت بعمر البشير، وحاليا يمارس الحزب العزف المنفرد، فهو ليس راضيا عن البرهان، ولا عن الأحزاب التي تعمل على الإطاحة بالبرهان، بل يريد لتلك الأحزاب أن تنال منه صكوك الغفران.
في سياق العمل للإطاحة بحكم عمر البشير والجبهة الإسلامية تشكلت في كل مدن السودان “لجان مقاومة”، وهي التي تتحكم اليوم في إيقاع النشاط المناهض لانقلاب البرهان، وتثبت أنها تتحلى بالوعي وطول النفَس، ولكن أحزاب المعارضة العتيدة والجديدة، وعوضا من أن تدعم تلك اللجان وصولا إلى الانتقال من مرحلة تسيير المواكب إلى مرحلة العصيان المدني، بوصفه الأداة المجربة لإسقاط الأنظمة الديكتاتورية، عمدت إلى اختراق تلك اللجان فبدأ بعضها يتشظى على نفس خطوط تشظي الأحزاب.
وما كان للبرهان أن يبقى في قصر الحكم عشرة أسابيع ـ دعك من عشرة أشهر منذ انقلابه الأخير ـ لولا أن معارضته بأيدي ساسة قصيري النظر، عيونهم وقلوبهم على الخبز، ويهملون أمر الطحن والعجن حسب الأصول المرعية.
يعارضون البرهان ويخدمون غاياته
يمارس الإنسان قليل الحيلة، أسلوب “رزق اليوم باليوم” لتسيير أمور حياته، ويكون بذلك بلا خطة لأي أمد من الزمان، بل يعمل لكسب القوت والرزق بمنطق لكل حادث حديث، ويترك للصدف أن تأتيه بالفرصة المناسبة ليغتنمها و”غدا يوم آخر”، وهذا هو حال حاكم السودان العسكري عبد الفتاح البرهان، الذي ظل يتخبط ويتكتك، ولكن بدون أي رؤية استراتيجية ولو لأسبوع واحد، لتكريس نفسه رئيسا وحيدا للبلاد، وكما صرح مرارا فهو عازف عن منصب رئيس مجلس السيادة الذي يمثل رئاسة الدولة الجماعية، والذي يضم نفرا اصطفاهم بنفسه، وقد أعلن في الرابع من تموز/ يوليو الماضي، أن المؤسسة العسكرية (يعني نفسه) زاهدة في الحكم والسياسة، وستكتفي بأن يكون لها مجلس عسكري عال، يتولى “فقط” شؤون الأمن والدفاع والسياسة الخارجية والاتصالات والبنك المركزي والطيران المدني وتصدير بعض السلع الاستراتيجية.
ولأنه يريد لمجلسه العسكري هذا أن يكون جسر عبوره للرئاسة، لأن أعضاءه بحكم أنهم عسكريون، وليس من حقهم عصيان أوامره بحكم أنه القائد العام للجيش، بل ولأنه من سيختارهم، سيحفظون له الجميل ويردونه إليه بمباركة جعله رئيسا لا شريك له؛ وتمهيدا لذلك قام البرهان بالإحالة إلى التقاعد عشرات الضباط من ذوي الرتب العالية، (وليخزي عين الشيطان ألحق بهم أربعة من شاغلي الرتب الصغيرة)، وغالبيتهم من الذين أنس منهم رفضا لعسكرة الحكم، وقام بترفيع رتب عدد من الضباط غير المغضوب عليهم إلى “فريق/فريق أول”، وسعد السودانيون بأن يحمل رئيس هيئة أركان الجيش رتبة فريق أول كي لا يضطر إلى مهانة أداء التحية مع تنكيس الرأس لمحمد حمدان دقلو (حميدتي) الذي يحمل تلك الرتبة وهو غير المؤهل حتى لرتبة وكيل عريف.
كان البرهان قد شجع القيادات العسكرية على عقد ندوات “داخلية” لمناقشة الشؤون العامة، أي تلك المتعلقة بأمور الحكم والسياسة، فوقف بعض كبار الضباط على المنابر وقالوا، ولو على استحياء، إن أمر الحكم والديمقراطية شأن مدني، ومنهم من أبدى استياءه من تفاقم نفوذ قوات الدعم السريع الموالية لآل دقلو (أسرة حميدتي)، فكان أن دفعوا الثمن بفقدان مناصبهم خلال الهوجة البرهانية الأخيرة.
ثم وبعد أيام قليلة من صدور قرارات انهاء الخدمات والترقيات لضباط الجيش، قرر البرهان خطب ود أحدهم فأوكل اليه منصبا رفيعا في وزارة الدفاع، التي، ومن الناحية العملية، لا سلطة لها على الجيش، ويقتصر دورها على توفير الرواتب والمعينات ويعض الأمور المكتبية الديوانية، لأن الأمر برمَّته بيد البرهان بوصفه القائد العام للجيش.
كان البرهان قد شجع القيادات العسكرية على عقد ندوات “داخلية” لمناقشة الشؤون العامة، أي تلك المتعلقة بأمور الحكم والسياسة، فوقف بعض كبار الضباط على المنابر وقالوا، ولو على استحياء، إن أمر الحكم والديمقراطية شأن مدني، ومنهم من أبدى استياءه من تفاقم نفوذ قوات الدعم السريع الموالية لآل دقلو (أسرة حميدتي)، فكان أن دفعوا الثمن بفقدان مناصبهم خلال الهوجة البرهانية الأخيرة،
والبرهان يعمل على توطيد دعائم حكمه والتمهيد للاستفراد بكرسي الرئاسة بالكذب والمداهنة وإحياء النعرات القبلية، وبالاستنجاد بالمشعوذين والزاعمين القدرة على إتيان الخوارق، يربض في خندق معارضته طابور طويل من الأحزاب؛ ثلاثة منها (الأمة، والاتحادي الديمقراطي، والشيوعي) من مواليد أربعينيات القرن الماضي، وتتراوح أعمار البقية ما بين خمسين سنة وثلاث سنوات، ولكن من الواضح أنها جميعا تفتقر إلى بوصلة: الأولوية لماذا؟ إسقاط نظام البرهان العسكري أم التعبئة لكسب العقول والقلوب تمهيدا لانتخابات حتمية مرتقبة؟ واستقراء راهن الأوضاع في السودان يفيد بأن تلك الأحزاب لا تبذل معشار الجهد المبذول لإشانة سمعة بعضها البعض، على جهد الإطاحة بالبرهان والطغمة العسكرية توطئة لإقامة حكم مدني يدعو الناس إلى صناديق الاقتراع لتأتي حكومة منتخبة.
وأكبر حزبين جماهيريين في السودان هما الأمة والاتحادي الديمقراطي، ولكن كليهما نشأ تحت مظلة طائفية وقيادة روحية، هما بيت المهدي للأمة وبيت الميرغني للاتحاديين، وقد تفتت الحزب الاتحادي إلى نحو خمس تنظيمات، وآل الميرغني تاريخيا من فئة “اللي يتزوج أمي أقول له يا عمي”، فما أن يحدث انقلاب إلا هرعوا لمباركته، ثم آلت مقاليد الحزب لشباب بيت الميرغني في السنوات الأخيرة فعملوا على إقصاء القيادات ذات القدرات التنظيمية والفكرية العالية، فتشظى الحزب الذي كان يوما ما يجتاح الإنتخابات البرلمانية، وهناك اليوم أحزاب اتحادية مناهضة لحكم البرهان وأخرى تسير على خط المراغنة وتوالي البرهان أو “تلعب على حبلين”.
أما حزب الأمة، والذي خرج من مظلته البعض ليوالوا حكم عمر البشير، فقد ظل منذ تأسيسه خاضعا للقيادة الروحية ومن ثم السياسية لآل المهدي، ورغم أن معظم تصريحات الكوادر القيادية فيه ترفض حكم البرهان والعسكر، إلا أن رئيسه الحالي (وهو ضابط متقاعد سبق أن كان عضوا في المجلس العسكري الذي تشكل برئاسة عبد الرحمن سوار الذهب عقب الإطاحة بديكتاتورية جعفر نميري في 1985)، فتارة يداهن البرهان، ثم يزعم أنها زلة لسان، وتارة يتمترس في خندق معارضيه، مما يعطي الانطباع بأن هناك تقاسما للأدوار بين قيادات الحزب: نوالي المعارضة علنا ونعمل “تحت الطاولة” على منح البرهان والعسكر نصيبا من كعكة الحكم.
الحزب الشيوعي السوداني صغير من حيث الثقل الجماهيري، ولكن قدراته التنظيمية أعلى من بقية الأحزاب، وقد ظل في خندق معارضة “الحكومة”، حتى قبل انقلاب البرهان الأخير في 25 تشرين أول/ أكتوبر الماضي، أي أنه كان رافضا لحكومة عبد الله حمدوك التي تشكلت نتيجة تراض بين العسكر والقوى المدنية التي أطاحت بعمر البشير، وحاليا يمارس الحزب العزف المنفرد، فهو ليس راضيا عن البرهان، ولا عن الأحزاب التي تعمل على الإطاحة بالبرهان، بل يريد لتلك الأحزاب أن تنال منه صكوك الغفران.
في سياق العمل للإطاحة بحكم عمر البشير والجبهة الإسلامية تشكلت في كل مدن السودان “لجان مقاومة”، وهي التي تتحكم اليوم في إيقاع النشاط المناهض لانقلاب البرهان، وتثبت أنها تتحلى بالوعي وطول النفَس، ولكن أحزاب المعارضة العتيدة والجديدة، وعوضا من أن تدعم تلك اللجان وصولا إلى الانتقال من مرحلة تسيير المواكب إلى مرحلة العصيان المدني، بوصفه الأداة المجربة لإسقاط الأنظمة الديكتاتورية، عمدت إلى اختراق تلك اللجان فبدأ بعضها يتشظى على نفس خطوط تشظي الأحزاب.
وما كان للبرهان أن يبقى في قصر الحكم عشرة أسابيع ـ دعك من عشرة أشهر منذ انقلابه الأخير ـ لولا أن معارضته بأيدي ساسة قصيري النظر، عيونهم وقلوبهم على الخبز، ويهملون أمر الطحن والعجن حسب الأصول المرعية.
يمارس الإنسان قليل الحيلة، أسلوب “رزق اليوم باليوم” لتسيير أمور حياته، ويكون بذلك بلا خطة لأي أمد من الزمان، بل يعمل لكسب القوت والرزق بمنطق لكل حادث حديث، ويترك للصدف أن تأتيه بالفرصة المناسبة ليغتنمها و”غدا يوم آخر”، وهذا هو حال حاكم السودان العسكري عبد الفتاح البرهان، الذي ظل يتخبط ويتكتك، ولكن بدون أي رؤية استراتيجية ولو لأسبوع واحد، لتكريس نفسه رئيسا وحيدا للبلاد، وكما صرح مرارا فهو عازف عن منصب رئيس مجلس السيادة الذي يمثل رئاسة الدولة الجماعية، والذي يضم نفرا اصطفاهم بنفسه، وقد أعلن في الرابع من تموز/ يوليو الماضي، أن المؤسسة العسكرية (يعني نفسه) زاهدة في الحكم والسياسة، وستكتفي بأن يكون لها مجلس عسكري عال، يتولى “فقط” شؤون الأمن والدفاع والسياسة الخارجية والاتصالات والبنك المركزي والطيران المدني وتصدير بعض السلع الاستراتيجية.
ولأنه يريد لمجلسه العسكري هذا أن يكون جسر عبوره للرئاسة، لأن أعضاءه بحكم أنهم عسكريون، وليس من حقهم عصيان أوامره بحكم أنه القائد العام للجيش، بل ولأنه من سيختارهم، سيحفظون له الجميل ويردونه إليه بمباركة جعله رئيسا لا شريك له؛ وتمهيدا لذلك قام البرهان بالإحالة إلى التقاعد عشرات الضباط من ذوي الرتب العالية، (وليخزي عين الشيطان ألحق بهم أربعة من شاغلي الرتب الصغيرة)، وغالبيتهم من الذين أنس منهم رفضا لعسكرة الحكم، وقام بترفيع رتب عدد من الضباط غير المغضوب عليهم إلى “فريق/فريق أول”، وسعد السودانيون بأن يحمل رئيس هيئة أركان الجيش رتبة فريق أول كي لا يضطر إلى مهانة أداء التحية مع تنكيس الرأس لمحمد حمدان دقلو (حميدتي) الذي يحمل تلك الرتبة وهو غير المؤهل حتى لرتبة وكيل عريف.
كان البرهان قد شجع القيادات العسكرية على عقد ندوات “داخلية” لمناقشة الشؤون العامة، أي تلك المتعلقة بأمور الحكم والسياسة، فوقف بعض كبار الضباط على المنابر وقالوا، ولو على استحياء، إن أمر الحكم والديمقراطية شأن مدني، ومنهم من أبدى استياءه من تفاقم نفوذ قوات الدعم السريع الموالية لآل دقلو (أسرة حميدتي)، فكان أن دفعوا الثمن بفقدان مناصبهم خلال الهوجة البرهانية الأخيرة.
ثم وبعد أيام قليلة من صدور قرارات انهاء الخدمات والترقيات لضباط الجيش، قرر البرهان خطب ود أحدهم فأوكل اليه منصبا رفيعا في وزارة الدفاع، التي، ومن الناحية العملية، لا سلطة لها على الجيش، ويقتصر دورها على توفير الرواتب والمعينات ويعض الأمور المكتبية الديوانية، لأن الأمر برمَّته بيد البرهان بوصفه القائد العام للجيش.
كان البرهان قد شجع القيادات العسكرية على عقد ندوات “داخلية” لمناقشة الشؤون العامة، أي تلك المتعلقة بأمور الحكم والسياسة، فوقف بعض كبار الضباط على المنابر وقالوا، ولو على استحياء، إن أمر الحكم والديمقراطية شأن مدني، ومنهم من أبدى استياءه من تفاقم نفوذ قوات الدعم السريع الموالية لآل دقلو (أسرة حميدتي)، فكان أن دفعوا الثمن بفقدان مناصبهم خلال الهوجة البرهانية الأخيرة،
والبرهان يعمل على توطيد دعائم حكمه والتمهيد للاستفراد بكرسي الرئاسة بالكذب والمداهنة وإحياء النعرات القبلية، وبالاستنجاد بالمشعوذين والزاعمين القدرة على إتيان الخوارق، يربض في خندق معارضته طابور طويل من الأحزاب؛ ثلاثة منها (الأمة، والاتحادي الديمقراطي، والشيوعي) من مواليد أربعينيات القرن الماضي، وتتراوح أعمار البقية ما بين خمسين سنة وثلاث سنوات، ولكن من الواضح أنها جميعا تفتقر إلى بوصلة: الأولوية لماذا؟ إسقاط نظام البرهان العسكري أم التعبئة لكسب العقول والقلوب تمهيدا لانتخابات حتمية مرتقبة؟ واستقراء راهن الأوضاع في السودان يفيد بأن تلك الأحزاب لا تبذل معشار الجهد المبذول لإشانة سمعة بعضها البعض، على جهد الإطاحة بالبرهان والطغمة العسكرية توطئة لإقامة حكم مدني يدعو الناس إلى صناديق الاقتراع لتأتي حكومة منتخبة.
وأكبر حزبين جماهيريين في السودان هما الأمة والاتحادي الديمقراطي، ولكن كليهما نشأ تحت مظلة طائفية وقيادة روحية، هما بيت المهدي للأمة وبيت الميرغني للاتحاديين، وقد تفتت الحزب الاتحادي إلى نحو خمس تنظيمات، وآل الميرغني تاريخيا من فئة “اللي يتزوج أمي أقول له يا عمي”، فما أن يحدث انقلاب إلا هرعوا لمباركته، ثم آلت مقاليد الحزب لشباب بيت الميرغني في السنوات الأخيرة فعملوا على إقصاء القيادات ذات القدرات التنظيمية والفكرية العالية، فتشظى الحزب الذي كان يوما ما يجتاح الإنتخابات البرلمانية، وهناك اليوم أحزاب اتحادية مناهضة لحكم البرهان وأخرى تسير على خط المراغنة وتوالي البرهان أو “تلعب على حبلين”.
أما حزب الأمة، والذي خرج من مظلته البعض ليوالوا حكم عمر البشير، فقد ظل منذ تأسيسه خاضعا للقيادة الروحية ومن ثم السياسية لآل المهدي، ورغم أن معظم تصريحات الكوادر القيادية فيه ترفض حكم البرهان والعسكر، إلا أن رئيسه الحالي (وهو ضابط متقاعد سبق أن كان عضوا في المجلس العسكري الذي تشكل برئاسة عبد الرحمن سوار الذهب عقب الإطاحة بديكتاتورية جعفر نميري في 1985)، فتارة يداهن البرهان، ثم يزعم أنها زلة لسان، وتارة يتمترس في خندق معارضيه، مما يعطي الانطباع بأن هناك تقاسما للأدوار بين قيادات الحزب: نوالي المعارضة علنا ونعمل “تحت الطاولة” على منح البرهان والعسكر نصيبا من كعكة الحكم.
الحزب الشيوعي السوداني صغير من حيث الثقل الجماهيري، ولكن قدراته التنظيمية أعلى من بقية الأحزاب، وقد ظل في خندق معارضة “الحكومة”، حتى قبل انقلاب البرهان الأخير في 25 تشرين أول/ أكتوبر الماضي، أي أنه كان رافضا لحكومة عبد الله حمدوك التي تشكلت نتيجة تراض بين العسكر والقوى المدنية التي أطاحت بعمر البشير، وحاليا يمارس الحزب العزف المنفرد، فهو ليس راضيا عن البرهان، ولا عن الأحزاب التي تعمل على الإطاحة بالبرهان، بل يريد لتلك الأحزاب أن تنال منه صكوك الغفران.
في سياق العمل للإطاحة بحكم عمر البشير والجبهة الإسلامية تشكلت في كل مدن السودان “لجان مقاومة”، وهي التي تتحكم اليوم في إيقاع النشاط المناهض لانقلاب البرهان، وتثبت أنها تتحلى بالوعي وطول النفَس، ولكن أحزاب المعارضة العتيدة والجديدة، وعوضا من أن تدعم تلك اللجان وصولا إلى الانتقال من مرحلة تسيير المواكب إلى مرحلة العصيان المدني، بوصفه الأداة المجربة لإسقاط الأنظمة الديكتاتورية، عمدت إلى اختراق تلك اللجان فبدأ بعضها يتشظى على نفس خطوط تشظي الأحزاب.
وما كان للبرهان أن يبقى في قصر الحكم عشرة أسابيع ـ دعك من عشرة أشهر منذ انقلابه الأخير ـ لولا أن معارضته بأيدي ساسة قصيري النظر، عيونهم وقلوبهم على الخبز، ويهملون أمر الطحن والعجن حسب الأصول المرعية.