آراء

لا شيئاً ينصف ضحايا الاسترقاق (1 من 2)

الدكتور عمر مصطفى شركيان

shurkiano@yahoo.co.uk

بم نحن مدينون للموتى من ضحايا الاسترقاق؟  إنَّ التعويضات الماديَّة لا يمكن بأيَّة حال من الأحوال أن تعوِّض ذراري الأرقَّاء عما جرى لأجدادهم الذين كانوا من ضحايا الاسترقاق.  ففي قامبيا إنَّك لواجدٌ حيطان حجريَّة ملطَّخة بدماء ملتصقة في جزيرة لا تبعد بعيداً عن اليابسة، وهي كانت عبارة عن مستودع لشركة فرنسيَّة كانت قد تخصَّصت في تجارة الرِّق، وها هي الآن آيلة للسقوط، وبجوارها معسكر بريطاني محاط بمدافع، وها هي الأخرى الآن لا تؤدِّي أغراضها التي من أجلها تمَّ جلبها.  ثمَّ في تلك الجزيرة، التي كانت تسمَّى جيمس، يوجد حصن محصن، حيث كان يُسجن العبيد، ويظلوا يجلسون على مخلفاتهم من البراز والبول، وكان يُسمح لهم بالخروج فقط أسبوعيَّاً لجلدهم، أو ليرقصوا كضرب من ضروب الرياضة.  إذاً، ماذا جرى في هذه البقعة من غرب إفريقيا؟

تعود الحكاية إلى التاريخ الأسيود لنهر قامبيا – مثلما كانت الحال في نهر النيل – كإحدى الأنهر الأكثر حركة ودمويَّة في إفريقيا في الفترة ما بين القرن الخامس عشر والتاسع عشر.  ففي أعقاب التداخل بين التجار البرتغال الأوائل وكبار الكورلنديين البلطيق الذين جاءوا إلى تلك المنطقة بحثاً عن الذهب، أخذ الهولنديُّون والفرنسيُّون والبريطانيُّون يتحكَّمون في النهر خلال القرن السابع عشر الميلادي، وشرعوا ينقلون الآلاف من السنغاليين والقامبيين الذين كان يتمُّ أسرهم في حملات الإغارات، أو الذين كان يجلبهم الملوك الإقليميُّون المتواطئون مع المستعمرين، ومن ثمَّ يتمُّ نقلهم إلى أمريكا.  بيد أنَّ محاولات البعض من الأجيال المعاصرة في البحث عن أسلافه من خلال الأرشيف والروايات الشفاهيَّة لم تكلَّل بالنجاح باستثناء ما قام به الراوية الأمريكي أليكس هيلي.  ففي هذا الشأن نشر هيلي كتاب “الجذور: ملحمة عائلة أمريكيَّة” العام 1976م (Roots: The Saga of an American Family).  ففي ذلكم الكتاب تتبع هيلي جذور عائلته إلى كينتي وقامبيا.  وباستخدام شهادة مواطن قامبي متخصِّص في التاريخ الشفاهي، زعم هيلي أنَّ جده الأوَّل كينتي قد تمَّ اختطافه من قرية تقع على ضفاف أو شاطئ النهر، وهي تلك التي كانت تُسمَّى جوفورة، ثمَّ تمَّ تهريبه إلى جزيرة جيمس (جزيرة كونتا كينتي حاليَّاً) قبل نقله إلى أنابوليس في ولاية ميريلاند الأمريكيَّة العام 1767م.  الجدير بالذكر أنَّ كونتا كينتي كان عبداً من إثنيَّة ماندينكا، وهو الشخصيَّة المحوريَّة في رواية هيلي، التي حقَّقت أكثر المبيعات في ذلك الرَّدح من الزمان.  برغم من ذلك تمَّ تصنيف الرواية في باب الأعمال الخياليَّة.

في زيارة لكاتب هذا المقال إلى مدينة الكاب في جمهورية جنوب إفريقيا في الفترة ما بين 14-16 آب (أغسطس) 2015م في ورشة عمل سياسيَّة، وبعد الانتهاء من الورشة أخذنا أحد العاملين بالفندق الذي وضعنا فيه أمتعتنا ريثما يحين الوقت للمغادرة إلى المطار، وذهبنا إلى “متحف العبيد”، أو هكذا كانوا يسمونه.  ولما سألناه لم يحمل هذا المتحف هذه التسمية المسيئة في هذا الزمان؟  أجاب العامل بأنَّ هذا المكان كان يعتبر سجناً للرَّقيق، وكان يتمُّ قتل عددٍ منهم لأتفه الأسباب، وبصورة عشوائيَّة تقشعر له الأبدان، وترتعد له الفرائص، وتوجل القلوب، حتى ظلَّ المكان مضرجاً بدماء الضحايا الأفارقة، وبالحق وجدنا أرضيَّة الحجرة في المتحف سوداء بالدماء القانية.  إذ استطرد محدِّثنا قائلاً إنَّ السلطات الحكوميَّة قرَّرت إبقاء هذه الدماء على هذا النحو كعبرة ودرس للأجيال المعاصرة والقادمة حتى تعلم عما حاق بأسلافهم في أيدي المستعمرين البيض من البوير (المزارعين الهولنديين) وغيرهم؛ قساة القوب كانوا، ثمَّ غلاظ النفوس.

ففي بحث قامت به منظمة بيت الخبرة المسمَّى “المستقبل العولمي” (Global Future) في سبيل استطلاع أراء النَّاس لتحديد ظن الرأي العام في بريطانيا حول تاريخ البلد في الماضي، أظهر الاستطلاع فارقاً طفيفاً بالكاد لا يذكر.  إذ أنَّ البيانات التي جمعها “يوقوف” (YouGov) قد توصَّلت إلى أنَّ 67% من الشعب البريطاني يعتقد أنَّ بريطانيا قد أحدثت دماراً في العالم بسبب الاستعمار، لكنها أيضاً قامت بعمل حسن، في الحين الذي اتفق 65% من الشعب أنَّ ثمة عدة أسباب، بما فيها العنصريَّة، تفسِّر التباينات بين المجموعات الإثنيَّة، مما يعضد مفهوم حروب الثقافة. 

أيَّاً كان من الأمر، فعلى بريطانيا أن تقوم بالتقييم الندمي لماضيها، وهناك كثرٌ من المؤرِّخين هم على كامل الاستعداد لإثارة قصص التجاوزات البريطانيَّة في عهدها الإمبراطوري. خذ مثلاً كتاب سايمون جينكينز المعنون “القِلْطيُّون: التاريخ المريب؟” (The Celts: A Sceptical History?)، الصادر العام 2022م، وهو ذلكم الكتاب الذي تكلَّم فيه الكاتب عن اضطهاد الإنجليز لشعوب الهامش الإنجليزي ممن تميَّزوا باستخدامهم للغات القِلْطيَّة في أيرلندا وإسكتلندا.  ففي كتابها “إرث العنف: تاريخ الإمبراطوريَّة البريطانيَّة” (Legacy of Violence: A History of the British Empire) ذكرت البروفيسور كارولاين إيلكنس “أنَّ العنف لم يكن قابلة الإمبراطوريَّة البريطانيَّة فحسب، بل كان مستوطناً في أنظمة ومؤسَّسات الحكم البريطاني.”  إذ يمكن تتبع هذا الأمر إلى معسكرات الاعتقال البريطانيَّة في حرب البوير في جنوب إفريقيا، ومذبحة أمريستار في الهند العام 1919م، وهزيمة حركة الماو ماو في كينيا في الخمسينيَّات من القرن المنصرم.  لعلَّ كل هذه التجاوزات تحمل أثراً تراكميَّاً، وتصب في النظرة السالبة إلى الإمبراطوريَّة البريطانيَّة في عهدها الماضوي.  إنَّ المتظاهرين الجاميكيين الذين هتفوا ضد الأمير ويليام دوق كمبريدج مطالبين بالتعويضيات لتجارة السكر ليمثلون تعبيراً تعويضيَّاً لسنوت الرِّق ومساوئه.

أما بالنسبة للدول الاستعماريَّة الأخرى فلم تكن الظروف في مستعمراتها أفضل بأيَّة حال من الأحول مما أقدمت عليه بريطانيا في أمر انتهاكات حقوق الإنسان.  لعلَّ مما زاد الأمر سوءاً اكتشاف النفط في أمريكا في منتصف القرن التاسع عشر، حتى أمسى نقمة على الشعوب الأصيلة.  ففي ولاية أوكلاهوما تمَّت التصفية الممنهجة للهنود الحمر الذين وُجِد النفط في أراضيهم، وذلك من خلال عدَّة طرق: تزويجهم لنساء أوروبيات ومن ثمَّ تصفيتهم بعدَّة وسائل، أو اتِّهامهم بجرائم غليظة لم يرتكبونها أبداً، وإزاء ذلك يتمُّ الزجُّ بهم في غياهب السجون، ثمَّ حرمانهم من ثرواتهم النفطيَّة.

أما في سومطرة، حيث ظلَّت مستعمرة هولنديَّة، وهي حاليَّاً جزء من إندونيسيا الحديثة، فقد شهدت الجزيرة تجاوزات إنسانيَّة مروِّعة.  إذ فاق الهولنديُّون ببشاعتهم ووحشيتهم كل منافسيهم الاستعماريين الآخرين في اضطهاد السكان المحليين، وذلك لصالح شركة شل الملكيَّة الهولنديَّة.  ففي خلال فترة ال40 عام، التي بدأت منذ العام 1896م، قضى 12.000 عسكري استعماري، وما يتراوح بين 75,000-100,000 من إثنية أشي، و25.000 من كوليين نحبهم.  إذ كان واحد من الضباط الهولنديين الذي تمَّ اتِّهامه بالمجازر في المنطقة هو الملازم هيندريكوس كوليجن، وهو الذي بعث برسالة من أرض المعركة إلى زوجته في هولندا كاتباً: “لقد لمحت امرأة، وهي تحمل طفلاً يبلغ عمره فيما يبدو نصف العام في يدها اليمنى، وهي مسرعة نحونا لمهاجمتنا.  ومن هنا وبعدئذٍ لم نمنحها الرَّحمة.  لقد قمت بجمع تسع نساء وثلاثة أطفال، الذين أخذوا يشحذوننا الرَّحمة، ولكن أطلقنا عليهم النَّار.  كان هذا الأمر عملاً غير محبَّب، لكن لم يكن لنا خيار آخر.”  الأسوأ في الأمر أنَّ كوليجن أصبح لاحقاً مديراً لشركة شل الملكيَّة، ورئيساً للوزراء في هولندا.

أما في ناميبيا التي خضعت للاستعمار الألماني في الفترة ما بين (1884-1919م) فقد تمَّت إبادة حوالي 80,000 من إثنيَّة الهيريرو، وذلك في الصراع الذي دار بينها وبين الألمان الغزاة القساة في الفترة ما بين (1904-1907م).  كانت تلك الأحداث مؤلمة، حيث كان قبيل الهيريرو من أكبر القبائل في ناميبيا، ومع ذلك قلَّما كُتِب في أمرهم، أو ذُكِر شيئاً عنهم.  كانت حياة الهيريرو تعتمد على تربية ورعي الماشية.  إذ لم يقم الألمان بنزع أفضل أراضيهم الرعويَّة فحسب، بل جعلوا امتلاك الهيريرو للماشية جريمة يُعاقب عليها بالإعدام.  وحينما قاوم الهيريرو هذه الإجراءات التعسفيَّة، قتلوهم رمياً بالرصاص، أو شنقوهم حتى الموت، وأرسلوهم إلى معسكرات التعذيب، أو زُجُّ بهم في الصحراء، وتمَّ تدمير حفائر المياه، حتى لا يعود الأحياء منهم إلى ديارهم، وإزاء ذلك توفي الآلاف من الرجال والنساء والأطفال عطشاً في نهاية الأمر.

للمقال خلاصة،،،

Author

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى