حول الرِّق.. ماضيه ومآثره (19 من 19)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
shurkiano@yahoo.co.ukخلاصة
في مسألة الرِّق هذه قد يسأل سائل علام ننكأ الجرح القديم، وإلام ننظر إلى الماضي الأليم بأسى غير تجمل؟ في واقع الأمر يسعنا بالتأكيد أن نؤيِّد رأي بونفون القائل: “في أيَّام الاضطرابات يسعى المرء إلى أن يجعل من كل شيء سلاحاً: من حجارة الشوارع إلى مؤلِّفات الماضي.” وقد رأينا الصبية الفلسطينيين يستخدمون الحجارة سلاحاً في انتفاضاتهم، والشعب السُّوداني يشيِّد المتاريس في شوارع الخرطوم ضد الطاغية المخلوع عمر حسن أحمد البشير، وها نحن نستجير بمؤلِّفات الماضي والقصص لتعرية الماضي من سوءاته وطغيان الفاعلين فيه بكل ما كانوا فيه من تعسف وعنف، وذلك بشيء من الغلظة شديد. إذ إنَّنا لا نرغب في تبرير ما حدث من مساوئ، لأنَّ التاريخ لا يقبل العواطف ورقة الأحاسيس، وإنَّما يقبل الحقائق فقط. فلا ريب في أنَّ الذي قادنا إلى العزف على أوتار الاسترقاق برغم من انقضاء عهد الرِّق السلعي أو التملكي (Chattel slavery) هو ما تركته ممارسته في المجتمع السُّوداني خصوصاً، وفي المشكل الثقافي والاجتماعي والسياسي عموماً، من تداعيات ومآثر.
علاوة على ذلك، فإنَّ الحروب الأهليَّة التي استمرَّت في السُّودان منذ الخمسينيَّات حتى اليوم قد أفرزت ممارسات استرقاقيَّة ضد شعوب وقوميات أصيلة في المجتمع السُّوداني، وقد أوردنا أمثلة عديدة في إصدارة لنا في لندن باللغة الإنجليزيَّة التي تحمل العنوان “السُّودان: انتفاض مواطني المناطق المقفولة” العام 2021م (Sudan: The Rise of Closed Districts’ Natives). فهناك من تتبع طفله الذي اختطفته الميليشيات العربيَّة أو جند الحكومة السُّودانيَّة في حربها الجهاديَّة في جنوب السُّودان، وتم إيداعه لأسرته في شندي أو عطبرة، أو العاصمة القوميَّة الخرطوم.
بيد أنَّ النَّظر إلى قضيَّة الرِّق بعين عوراء، أو شذراً في بعض الأحايين، والاعتقاد الجارف بأنَّنا أطفأنا ناره بالكاد يكون شيئاً خطيراً، وذلك لأننا ظللنا نسكِّن به أنفسنا، وندغدغ به مشاعرنا دون مخاطبة الظواهر الاجتماعيَّة والآثار الثقافيَّة والنفسيَّة الناجمة عن ممارسته في الماضي؛ وهذا ما يساعد على “تسميد الحرب”، أي الحرب الأهليَّة في السُّودان، وعبارة “تسميد الحرب” هنا مقتبسة من الصحافي المبدع صلاح شعيب. ربما احتاج أبناء السُّودان إلى عددٍ من السنوات، وجهود كبيرة قبل أن تتخلَّص الأجيال الحاليَّة والقادمة تماماً من آثار الرِّق وتبعاته. ففي مبحث لنا بعنوان “التركيَّة في كردفان.. جبال النُّوبة وأهوال الاسترقاق”، المنشور بواسطة دار المصوِّرات للنَّشر والتوزيع والطباعة في الخرطوم العام 2022م، أسهبنا في الحديث عن العبوديَّة، ثمَّ بحثنا في عللها، وبشيء من التركيز شديد عن الفترة التركيَّة-المصريَّة في السُّودان (1821-1885م) كما هو باين في العنوان، وبخاصة في جبال النُّوبة. في الحق، العبوديَّة هي الداء السياسي والاجتماعي المطلق الذي فيه يُحرم الفرد من حريَّته وطبيعته الإنسانيَّة، فليس مثيراً للدَّهشة أن تنتج العبوديَّة آثاراً في غاية الانحطاط الإنساني. وحين نتحدَّث عن الحريَّة ينبغي التفريق بينها وبين التحرير. فالحريَّة التي جادل فيها كل من جان-بول سارتر (1905-1980م) وسيمون دي بوفوار (1908-1986م) ما وسعهما الجدال اكتفيا بتجنُّب الوطء على حريَّة الآخر ذاته حتى لا يغدو سجيناً. أما ميشيل فوكو (1926-1984م) فقد نظر إلى التحرير بأنَّه إنجاز لحظوي، أي وليد اللحظة، فيما تعني الحريَّة ديمومة الممارسة.
أما بعد ففي الصفحات السابقات قدَّمنا استعراضاً عاماً حول الرِّق.. ماضيه ومآثره، والأمثلة التي أوردناها هنا وهناك من الغرب والشرق للاستدلال فقط، وليست للمقارنة أو المقاربة الدراسيَّة، لأنَّ محاولة المقارنة تستدعي عملاً أكثر بحثاً، ودراسة أكبر عمقاً. كذلك لم نكد نستطيع أن نغوص في الحال النفسيَّة التي خلفتها مؤسَّسة وعلاقات الرِّق في العالم عموماً والسُّودان خصوصاً، وذلك لأنَّها عمل مستفيل. فالعبوديَّة هي الداء السياسي المطلق الذي تنعدم فيه الطبيعة الإنسانيَّة، فليس مثيراً للدهشة أن تنتج آثاراً نفسيَّة مذهلة. ومع ذلك، نشر بعض من الروائيين كثراً من الرِّوايات تحكي بشيء من الأسى شديد عن أحوال العبيد الاجتماعيَّة والثقافيَّة، وقد ساهمنا في هذا الأمر برواية “لعنة الغراب” المنشورة العام 2020م في كمبردج باللغة الإنجليزيَّة (Curse of the Raven). أجل، لقد اكتفينا بتبيان وتبيين بعضاً من ظروف العبدان الاجتماعيَّة في المجتمعات التي أوجدتهم فيها حظوظهم العاثرة، والدور السياسي الذي فيه أفلح بعض منهم في إدارة شؤون البلاد والعباد حيناً، والانخراط الدِّيني في مجال التبشير الكنسي حيناً آخر.
ففي نهاية الأمر نستطيع أن نقول إنَّ الرِّق لمرض اجتماعي تغلغل في نفوس النَّاس الأمارة بالسوء منذ زمن سحيق، وظلَّت قابعة في المجتمعات التي لم تشهد تطوُّراً حضاريَّاً حقيقيَّاً. ومتى ما ترسَّب داءٌ عضال من هذا النمط في النفوس، وصعب استئصاله، سيتداعى له سائر الجسد، وينتقل إلى الجينات، ثمَّ تشرع الذراري في توارثه جيلاً بعد جيل، ما لم يضع المجتمع والدولة القائمة على أمر البلاد والعباد حداً لهذه الظاهرة المرضيَّة المزمنة. فالقوانين الرَّادعة، والتوعيَّة التربويَّة لتلامذة المدارس، والإعلام الرشيد، واستخدام منظمات المجتمع المدني، والمسؤوليات الفرديَّة بالنهي عن المنكر والأمر بالمعروف لساناً لا عنفاً، والمجادلة بالتي هي أحسن، كل هذه الجهود قد تتضافر وتساعد في نهاية الأمر على اقتلاع جذور هذه الظاهرة الاجتماعيَّة وأخواتها التي لازمت شعوب العالم عامة، وأهل السُّودان خاصة ردحاً من الزمان. أما الأمَّة التي تفضِّل الرقود، أي النوم الطويل ” وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ” (الكهف: 18/18)، فهي أمَّة ضائعة؛ أو كما كتب الراحل أحمد خير المحامي في كتابه “كفاح جيل” قائلاً: “إنَّ الأمَّة التي تظل نائمة حالمة في الوقت الذي يكون مصيرها في الميزان لا يحق لمثل هذه الأمَّة أن تحتل مكانها تحت الشمس.” غير أنَّ الذي لا مراء فيه هو أن حال تلك الأمَّة لسوف تكون أضيع من غمدٍ بغير نصل، وقد ذكر الشاعر صريع الغواني في ديوان العصر العباسي هذا الشأن بأحسن لفظ فقال:
وإنِّي وإسماعيلُ يومَ وداعِهِ كالغُمدِ يوم الرَّوْع فارقهُ النَّصلُ