حول الرِّق.. ماضيه ومآثره (17 من 19)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
shurkiano@yahoo.co.uk
لا مراء في أنَّ قوميات السُّودان الأصيلة قد مرَّت بظروف عصي الوصف مهما كنا حراصاً على ذلك، وتعود تلك الظروف إلى عصور تجارة الرِّق. إذ لنا قناعة راسخة بأنَّ أحداث التأريخ تجارب إنسانيَّة يصنعها البشر عبر الزمان والمكان، ثمَّ إنَّها لتفيد النَّاس في استخلاص العبر الأخلاقيَّة، وبخاصة على المستوى السياسي، ولكن الذي يجهل الماضي لا محيص له من أن يسيء فهم الحاضر. ولعلَّ التركيَّة-المصريَّة (1821-1885م) في السُّودان عامة، وكردفان خاصة، تمثل أس البلاء الذي وقع سكان البلاد الأصلاء ضحاياه، حتى أُخذوا في شكل جماعات، ومن ثمَّ تمَّ بيعهم في أسواق النَّخاسة في الداخل والخارج بما فيه شبه الجزيرة العربيَّة. فلا نندهش إذا كانت ابنة عبد العزيز أخت عمر بن عبد العزيز قد قيل إنَّها كانت تعتق في كل يوم رقبة، إذ يعني هذا الأمر أنَّها أعتقت 365 عبداً في العام. وكذلك قيل إنَّ هند بنت عبد المطلب أعتقت في يوم واحد أربعين رقبة. تُرى كم كانت هذه النساء من الأعراب يملكن من الرَّقيق!
لقد اعتمدت ظاهرة الاسترقاق في العصور الحديثة على اللون، وأمسى اللون الأسود مبعثاً للاسترقاق؛ إذ ليس هناك ثمة شيئاً أقبح وأقدح من التمييز العنصري، فإنَّه لمن الغباء ان تحكم على شخص ما على أساس لون جلده، ومن ثمَّ تثير الكراهيَّة ضده لفظاً وعملاً، وتستبيح دمه فقهيَّاً. ولكي نسمِّي الأشياء بمسمَّياتها فإنَّ الصراع الناشئ في السُّودان اليوم ويوم غداً تعود جذوره إلى التمايز الداخلي لئلا نقول التفاضل العنصري، والمصالح الحزبيَّة، وحسابات التوازن السياسي كلها ناشئة من خداع الأنفس وعدم الصِّدق معها، حتى ترسَّخت هذه الجذور في أدمغة بعض الفئات السكانيَّة، وأصبحت مقياس التصرُّف النمطي لديه. إذ “ما زال للرِّق وثقافته أثر واضح إن لم يكن في استمرار استعباد أبناء وبنات الأرقاء لأنَّ هذا أصبح محالاً، وإنَّما في الزراية بهم والتي تبدو واضحة في الأمثال،” وكثرٍ من الحكايات الشعبيَّة المنتشرة وسط المجتمعات السُّودانيَّة دون تبصُّر. فلعلَّك سامعٌ قائلاً يقول: “سجم الحلة الدليلها عبد!”، أو “العبد كل ما زاد عمره قلَّت قيمته!”، وذلك تعبير يعني أنَّ ليس للأرقاء إلا قوَّة عضلاتهم. إنَّ أسوأ ما جاء في هذه الحكايات ما قيل في أنَّ إكرام العبيد والنساء والصبيان يعتبر إهانة لمن يفعل ذلك، وإنَّه لعار عليهم في قولهم ذاك، لأنَّ العار يبقى والجرح يلتئم. أفلم تسمعوا بقول قائلهم:
ثلاثة إكرامهم إهانة الرِّق والنِّساء والصبيان
إنَّ داء الشخصيَّة المركبة في السُّودان أفرز عقداً أخرى مثل عقدتي النقص والاستعلاء. لقد كتب الدكتور الراحل منصور خالد: “ففي أعماق السُّوداني المستعرب تصطرع عقدة النقص، من ناحية، إزاء العربي القح الذي لا يشبهنا في الشكل وإن جمعت بيننا اللغة والثقافة. تلك العقدة تحمل مستعربة السُّودان على الزعم بأنَّهم عرب العرب: جدهم العبَّاس ولسانهم أفصح ألسنة العرب. ومن ناحية أخرى، عقدة الاستعلاء على من هم ليسوا بعرب من أهل السُّودان بحسبانهم ما خلقوا إلا ليفش العربي ورمه فيهم ولنا في ذلك أمثال: أوليس من أمثالنا “غبينة العربية يفشوها في السرية”، والسراري هُنَّ الإماء المستعبدات. من الأمثال أيضاً “العاني (أي الرَّقيق المأمور) عاني لَمن يصير فاني، ومنها “العبد مُسيَّر مو مخيَّر”، ومنه “عبد الما عندو عبد” وفي ذلك حث للأحرار المزعومين على أن يكون لهم عبيد، كما منها “الحش” (الزراعة) مو شورة، شغلة العاني والعورة”، والعاني هو العبد، أما العورة فهو البليد. وللعرب مثل سائر هو “الأحصان العبد والعير”، والعبد هو المسترق والعير هو الحمار، وتقول العرب أرض حصاء أي جرداء لا خير فيها. أما معنى المثل فهو أنَّ العبد والحمار يماشيان ثمنيهما حتى يهرما فينقص ثمناهما.”
فإذا كانت هذه هي المآثر البالية التي استخدمت في عهد الاسترقاق كتوابع لهذه المؤسَّسة الاجتماعيَّة-الاقتصاديَّة السيئة السمعة، غير أنَّها ما زال البعض يستجير بها، ويطلقها على أولئك الذين يتحدَّرون من مسترقين سابقين. ولعلَّ أسطورة النقاء العرقي قد تمَّ تعزيزها بالسياسات التي تمَّ صوغها بطريقة ما لإنعاش هذه الأساطير، والإبقاء عليها. احتقار النَّاس سواءً كانوا رقيقاً أم يتحدَّرون من أرقاء سابقين يمثل جناية كبرى، ولا يقدم عليه إلا من كان جهولاً ظلوماً، لأنَّ في مثل هذه الحال يتعرَّض الشخص الضحية إلى ظلمين عظيمين: ظلم أنَّه تمَّ استرقاقه في بادئ الأمر، وهو الاسترقاق الذي لم يكن له فيه بد؛ فإذا كان في مقدوره أن يملك خياراً لاختار الحريَّة، لأنَّها أغلى شيء للإنسان في الوجود، وهي الشيء الذي لا يُشترى بالذهب. أما الظلم الآخر فهو الإساءة اللفظيَّة أو التعذيب النفسي الذي يتعرَّض له المسترق من جراء هذه العبارات المسيئة الاحتقاريَّة. إذا كان هناك ثمة إنصاف للمسترق فينبغي أن يتم توجيه العتاب لتاجر الرَّقيق الذي أقدم على استرقاقه بانتزاعه عنوة أو خلسة من مجتمعه وأهله وعشيرته التي كانت تؤويه. وفي هذه الحال يكون الشخص المنصف قد سجَّل موقفاً بطوليَّاً، لأنَّ شجاعة الموقف هي أندر أنواع الشجاعة.
للمقال بقيَّة،،،