حول الرِّق.. ماضيه ومآثره (16 من 19)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
shurkiano@yahoo.co.uk
في هذا المنعطف نستذكر ما كتبه البروفيسور مدثر عبد الرحيم الطيب في كتاب “مشكلة جنوب السُّودان: طبيعتها وتطوُّرها وأثر السياسة البريطانيَّة في تكوينها” الصادر العام 1970م، حيث حاول في استقصائه لقضيَّة الرِّق في جنوب السُّودان، وانتقى – فيما انتقى – من المراجع التي تخدم هواه، ولم يكن حصيفاً في بحثه. وفي هذا الشأن افتئات على التاريخ وتجني على الحقائق والوقائع. لقد حاول البروفيسور الطيِّب أن يرمي اللوم على سلاطين الجنوب زعيماً بأنَّهم هم الذين تسبَّبوا في ابتياع ذويهم، ولم يذكر أولئك التجار الشماليين وغيرهم الذين كانوا يجدفون عكس تيار النيل الأبيض إلى مداخيل أحراش الجنوب لاصطياد البشر وكأنَّهم حمرٌ مستنفرة فرَّت من قسورة. والتاريخ النزيه مليء بأسماء أولئك وهؤلاء. فقد عزا البروفيسور الطيِّب “وجود خلافات سياسيَّة خطيرة (بين الشمال والجنوب) كالخلاف الذي نحن بصدده الآن… (إلى) حملة التشهير والتهويل الجائر للدور الذي قامت به الأجيال السابقة من السُّودانيين (…)”، التي كانت وصمة عار في جبين الإنسانيَّة كلها في معظم تاريخها قبل هذا القرن العشرين.
ففي مؤتمر الحوار الوطني الذي أقامه نظام الرئيس المخلوع عمر حسن أحمد البشير في أوَّل عهدهم بالحكم دعا البروفيسور الطيِّب في المؤتمر إيَّاه إلى تمليش الشعب السُّوداني ضد حركة التمرُّد (الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان) التي كان يقودها الدكتور جون قرنق. وفي خطبته البتراء في ذلكم المنبر الحواري قال البروفيسور الطيِّب بالثغر الفاغر إذا كانت الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان تملك آلافاً من المقاتلين فعلى الحكومة أن تجنِّد مليون مقاتلاً لمجابهة الجيش الشعبي لتحرير السُّودان، وكان البروفيسور قد دبَّج مقاله المزمجر بالهوى والطموح، وتمَّ نشره في صحف ذلك الرَّدح من الزمان، وما درى البروفيسور الطيِّب أنَّ حروب العصابات لا يمكن أن تُهزم بحروب مضادة، ولكن بالمفاوضات التي يمكن أن تفضي إلى سلام مستدام.
لا يكتمل حديثنا عن الرِّق وتداعياته دون ذكر أولئك النفر من الباحثين الأجانب والسُّودانيين الذين استقطعوا أوقاتهم، ورفدوا دور العلوم والمعارف بما جادت به جهودهم المضنية في مجال البحث والاستقصاء عن هذا الأمر الجلل في شأن تاريخ السُّودان المأسوي، وهم – على سبيل المثال لا حصريَّاً – الدكتورة جانيت إيوالد في بحثها القيِّم “الجنود والتجَّار والرَّقيق.. تأسيس الدولة والتحوُّل الاقتصادي في وادي النيل الكبير” المنشور العام 1990م. وفي العام 1992م قامت إليزابيث سافيتش بتحرير كتاب “السلع البشريَّة.. نظرات على تجارة الرِّق عبر الصحراء”، والكتاب عبارة عن مجموعة من الأوراق البحثيَّة التي شارك فيها في إعدادها كثرٌ من الأكاديميين الأفذاذ، منهم الباحث الفرنسي الشهير جيرارد برونيه، وذلك بورقة عن “الرِّق العسكري في السُّودان إبَّان التركيَّة (1820-1885م)”، والبروفيسور روبرت كولنز بورقة عن “تجارة الرِّق النيليَّة.. الماضي والحاضر”، ودوغلاس جونسون بورقة عن “الزريبة في جنوب السُّودان”. فضلاً عن ذلك، هناك سرد لأهوال الرَّقيق ومحاولات الجنرال تشارلز غوردون في تحريرهم ومطاردة ومعاقبة تجار الرِّق، وقد ورد ذلك كله في الكتب العديدة التي كُتِبت عنه، وكذلك في مذكِّرات صمويل بيكر الذي سافر حتى أوغندا في محاولاته الدؤوب لإخماد هذه التجارة.
أما من الأكاديميين السُّودانيين فيقف البروفيسور أحمد العوض سيكنجا في أعلى الهرم، وذلك بنشره لكتابه المعنون “غرب بحر الغزال تحت الحكم البريطاني (1898-1956م)” الصادر العام 1991م، وكذلك كتابه الموسوم “من أرقَّاء إلى عمال: عتق الأرقَّاء والعمل في السُّودان المستعمر” الصادر العام 1996م. وفي شأن كتابه الأوَّل المذكور أعلاه ذكر البروفيسور سيكنجا أنَّ منطقة بحر الغزال كانت قد باتت في القرن التاسع عشر واحدة من المناطق الأكثر رواجاً في تصدير الرَّقيق في إفريقيا، وكان على رأس هذه التجارة الزبير باشا رحمة وآخرون من السُّودانيين والأجانب على حدٍّ سواء. كذلك نشر السكرتير السابق للحزب الشيوعي السُّوداني الأستاذ محمد إبراهيم نقد كتاب “علاقات الرِّق في المجتمع السُّوداني.. النشأة، السمات، الاضمحلال: توثيق وتعليق” الصادر العام 1995م.
نذكر أيضاً في الكتاب الدكتور بدر الدين حامد الهاشمي الذي اهتمَّ بمسألة الرِّق في السُّودان، فضلاً عن القضايا السياسيَّة والتاريخيَّة والاجتماعيَّة الأخرى. فقد قام بترجمة مختصرة لجزء من مقال طويل للبروفيسور روبرت كولنز عن الرِّق عبر السُّودان، الذي نُشر في العدد العشرين من مجلَّة “الرِّق وإلغاؤه” (Slavery and Abolition)، الصادرة العام 1999م. كذلك قام الدكتور الهاشمي بترجمة وعرض لبعض ما جاء في الفصل الثاني من كتاب “مسيرة بابكر بدري مع السلطة” للبروفيسورة إيفا إي م تي باول الصادر العام 2012م، والذي يعرض بالتحليل لبعض قصص الاسترقاق في مصر والسُّودان والإمبراطوريَّة العثمانيَّة. واللافت للنظر في الكتاب أنَّ بابكر بدري كان مالكاً للرَّقيق لسنوات طويلة، وكان الرَّقيق جزءاً من حياة ذلك الرجل التقي، بل وأحياناً جزءاً من كيفيَّة تعبيره عن عقيدته. وفي نهاية الأمر قام الدكتور الهاشمي بجمع هذه الأعمال البحثيَّة المترجمة والمدقَّقة في كتيب بعنوان “تاريخ الرِّق في السُّودان بأقلام غربيَّة”، ونشرته دار باركود للنشر في الخرطوم العام 2020م. وفي العام 2017م نشر الأستاذ عثمان نواي في كتاب “السُّودان: من العنصريَّة إلى التطهير العرقي.. مآلات جدل الهُويَّة وأزمة التغيير”، وكتبنا عنه استعراضاً في كتابنا “مداد القلم.. في قضايا الأدب والسياسة والتاريخ”، والذي نشرته دار المصوَّرات للنشر والطباعة والتوزيع بالخرطوم العام 2021م.
أما في الإطار الإفريقي فيما يختص بعلاقات الرِّق الإفريقي والمشرق العربي أو الأقصى فيقف المؤلِّف رونالد سيغال في كتابه “رقيق الإسلام الأسود: التاريخ الآخر لإفريقيا السوداء في المهجر” المنشور العام 2002م، وألستر هازيل في تأليفه “أخر سوق الرَّقيق: الدكتور جون كيرك والكفاح في سبيل إنهاء تجارة الرِّق في شرق إفريقيا” العام 2011م في إبراز الدور العربي والإسلامي في عمليات استرقاق الأفارقة في الساحل الشرقي لإفريقيا.
لكن تظل هذه الأطروحات العظيمة في إطار التداول الأكاديمي في مراكز البحوث والدراسات العلميَّة، ولم تكن متاحة للعامة ما لم تتنزَّل إلى تلامذة المدارس، حتى يتم تضمينها في مقرَّرات التربية والتعليم، وحقوق الإنسان، وتطبيقها في شكل مناهج التاريخ. ومن هنا يبرز دور واضعي المناهج التربويَّة في السُّودان على أن يولوا هذا الأمر الهام اهتماماً. وفي هذا الأمر ينبغي الأخذ بمناهج التفكير الفلسفي، والفحص النقدي للنصوص والأفكار، والبحث عن أساس الشرائع، والثقة في الأحكام المنطقيَّة، لأنَّها وُضعت كلها موضع التطبيق لينعم بها الطلاب وأساتذتهم. ففي مسألة الرِّق يجد الباحث المتجرِّد نفسه مشدوداً بين من يسيئون قراءة تاريخ السُّودان، وآخرون يمنعون قراءة التاريخ الصحيح. وما بين المسيء إلى التاريخ، والمانع من الخوض في التاريخ القديم، ضاعت الحقيقة هدراً على أعتاب السياسة.