السودان في انتظار نهاية اللعبة
ذكّرتنا “خريطة الطريق” التي رسمها رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق عبد الفتاح البرهان، في خطابه أخيراً، والتي تضمنت انسحاب العسكر من حوار الآلية الثلاثية (الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي وهيئة التنمية الحكومية)، وتشكيل مجلس أعلى للقوات المسلحة يكون مسؤولا عن الأمن والدفاع وما يتعلق بهما من شؤون، وطلبه من القوى المدنية تشكيل حكومة انتقالية من بين أطرافها تعمل على إجراء انتخابات، ذكّرتنا بواقعة طريفة قيل إنها حدثت في بغداد إبّان عرس “الجبهة الوطنية” التي جمعت بين البعثيين والشيوعيين منتصف سبعينيات القرن الماضي، عندما فتح الحزب الشيوعي مقرّاً له في شارع مهم في العاصمة العراقية، ورفعت على بوابة المقرّ لوحة كبيرة تحمل اسم “الحزب الشيوعي العراقي”. ويزعم مروّجو الواقعة أنّ أحد الخبثاء تسلل في عتمة الليل التالي قاصداً المقرّ، وعند وصوله، تسلق سلّماً كان قد حمله أصدقاؤه معه، وأضاف إلى اللوحة عبارة “لصاحبه حزب البعث العربي الاشتراكي” وانسلّ هارباً قبل أن يلتفت إليه الحراس. واعتبرت هذه الواقعة الطريفة، والتي لا نعلم مبلغ صدقيتها، بمثابة سخريةٍ لاذعةٍ من طبيعة التحالف بين الحزبين اللدودين، والذي لم يقدّر له أن يعمر طويلاً، إذ انفصمت عراه بعد فترة قصيرة، وجّه بعدها البعثيون ضربات قاسية للتنظيمات الشيوعية، ذهب ضحيتها مئاتٌ من أعضاء الحزب وأنصاره.
الرابط بين هذه الواقعة و”خريطة الطريق” التي رسمها البرهان أنّه يريد، كما هو واضح، إقامة حكومة مدنية ترأسها شخصية مدنية من المعارضة، على أن تكون تابعة له، باعتباره رئيس المجلس العسكري الأعلى المقترح. وبعبارة أخرى، تشكيل حكومة مدنية يكون صاحبها، أو مالكها الحقيقي، البرهان نفسه، وعلى النحو الذي قصدته الواقعة العراقية المزعومة.
السودان مقبلٌ على مرحلة قد تكون الأخطر في مسار العمل السياسي منذ انقلاب أكتوبر 2021
وفي أيّ حال، لم تنطلِ على القوى المدنية السودانية المعارضة لسلطة العسكر هذه الحيلة المكشوفة، اذ اعتبرتها بمثابة “شرعنة” لصيغة الوضع الماثل الذي صنعه البرهان نفسه، أو هي “انقلابٌ داخل الانقلاب” لن يغيّر شيئاً في واقع الحال، بحسب وصف “قوى الحرية والتغيير”. ولا بد من الاعتراف بوجود خلافات داخل القوى والفعاليات المدنية نفسها، وهذا ما أتاح للبرهان التطلّع غير المشروع للقبض تماما على كل السلطات، وقد أشار إلى هذا ضمنا، في إعلانه الذي حدّد مهمات “المجلس الأعلى” المقترح بشؤون الأمن والدفاع، مضيفا الى ذلك عبارة “حمّالة أوجه” تقرّر أن صلاحيات المجلس تمتد لتشمل “الشؤون الوثيقة بالنشاط العسكري”، وهذا يعني أن للمجلس صلاحية التدخل في كل الشؤون العامة، بدعوى أنّها ترتبط بأمن البلد والدفاع عنه.
ربما ركب الوهم البرهان، وهو يرى أمامه تجربة صنوِه عبد الفتاح السيسي في مصر الذي انقضّ على الحكومة التي كانت قائمة، ونفّذ “خريطة طريق” ضمنت له الاستحواذ على السلطة. وقد يكون أيضا قد دفعه هذا الوهم لأن يفكر في اقتفاء خطوات رئيس تونس، قيس سعيّد، الذي لم يعد أمامه سوى خطوة واحدة يتنفّس بعدها الصعداء رئيسا مدى الحياة. لكن، لن يمر طويل وقت حتى يكتشف حاكم السودان أن حسابات الحقل لا تطابق حسابات البيدر، وأن السودانيين، على الرغم من خضوعهم لحكم العساكر فترات متفاوتة دامت أكثر من خمسة عقود، عانوا فيها الأمرّين، فإنّ المزاج العام للغالبية قد تغيّر، ولم يعودوا في وارد السماح باستمرار الحكم العسكري، وتجاهل مطالبهم في إرساء نظام ديمقراطي، يضمن لهم الحياة الحرّة الكريمة، خصوصا وأن مشكلات محلية وإقليمية تتطلب وجود حكومة قوية، ممثلة لشرائح الشعب الأساسية، وقادرة على التصرّف بوعي وتفهم كامل لتلك المشكلات ونتائجها المحتملة.
لا يبدو واضحاً مشهد المستقبل السوداني في ظلّ الصراع القائم بين العسكر والقوى المدنية
توحي كلّ هذه التداعيات أن السودان مقبلٌ على مرحلة قد تكون الأخطر في مسار العمل السياسي منذ انقلاب أكتوبر 2021، خصوصا بعد توقف حوار “الآلية الثلاثية” التي تشكّلت للبحث في مخرج من الأزمة. وقد تترك هذه “الآلية” الميدان نهائياً بعد خطوة البرهان أخيرا، وتراجع الاهتمام الدولي بالسودان، وتوقّع تصعيد جديد في فعاليات القوى المعارضة بإعلانها الإضراب العام والعصيان المدني حتى انتزاع الحكم من العسكر.
وهكذا، تتعرّض الخريطة الجيوسياسية للسودان لمزيدٍ من التخبّط والعبث، ولا يبدو واضحاً مشهد المستقبل في ظلّ الصراع القائم بين العسكر والقوى المدنية، وإصرار العسكر على الحصول على “الرغيف” كاملاً، حتى لو أدّى ذلك الى التفريط بمصالح البلد العليا. وفي أيّ حال، ثمة وقت أمامنا كي نعرف كيف ستنتهي اللعبة.