حول الرِّق.. ماضيه ومآثره (14 من 19)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
shurkiano@yahoo.co.uk
زينب العباسي (ماري-جوزفين)
لا جدال في أنَّ الكنيسة الكاثوليكيَّة قد اهتمَّت اهتماماً عظيماً بالراهبة ماري-جوزفين، التي كانت تسمَّى قبلئذٍ زينب العباسي. ولا ريب في أنَّ اسم زينب لم يكن هو اسمها النُّوبوي قبل الاختطاف والاسترقاق؛ إذ كان المسترقون والمسترقات يتم إعطاؤهم أسماءً جديدة كنوع من تغيير الهُويَّة إلى الأبد. ثمَّ لا مرية في أنَّ اسم العباسي هو اسم سيِّدها الذي اشتراها من النَّخاس تاجر الرَّقيق. وما ماري-جوزفين إلا اسمها بعد التصعيد الكنسي، وهي تلكم الفتاة السُّودانيَّة الرَّقيقة، التي اُسترقت في ذلك الرَّدح من الزمان في منطقة جبال النُّوبة، وهي كانت طفلة صغيرة، وقد تمَّ شراؤها بواسطة رجل غريب أبيض، ثمَّ أُخِذت إلى إيطاليا ودرست وتعلَّمت وأصبحت متديِّنة لأنَّ المشتري الإيطالي كان قد سمح لها بالتعرُّف على الرُّب، ومن ثمَّ حبَّت زينب تحرُّر المسيح عيسى. أما الأب نيكولاس أوليفيَّرى فهو الذي سأل تلكم الفتاة الشابة بكل بساطة عن اسمها، واستغربت هي الأخرى كيف يكون كائن ما كان أن يخاطبها بدون وقاحة وبدون احتقار، بل بكل احترام ووقار. ومع ذلك، ردَّت بأنَّ اسمها زينب. ثمَّ سألها ما إذا كانت ترغب في أن تذهب وتخلد إلى الراحة معه في بيته، ولكن ليس للقيام بأي عمل، وبكل احترام قبلت زينب الطلب. إذ كان الأب الإيطالي أوليفيَّري قد دعاها بكل بساطة للحضور لتعلُّم القراءة والكتابة.
دخلت زينب في أسرة فرحة مما جعلها تنفتح على بقيَّة الفتيات، وكان ردهنَّ إيجابيَّاً وهن في الطريق المؤدِّية إلى إيطاليا. كانت زينب مع مجموعة الفتيات الرَّقيقات الأخريات منهمكات في السفينة التي باتت تمخر عُباب البحر الأبيض المتوسَّط من القاهرة إلى مارسليا، وطفقن يسألن عن مستقبلهنَّ المجهول؛ كنَّ لا يعتبرن أنفسهن شيئاً، لكن لم يكن عندهنَّ الخوف بقدر ما كنَّ مغتبطات بالحريَّة الجديدة. وفي خلال 6 أشهر من الرحلة بدأن يتعلمن صعوبات الإيطاليين وحياة الأوروبيين. وفي نيسان (أبريل) 1856م كانت ماري-جوزفين (زينب) قد بلغت من العمر حوالي 11 عاماً، ومن ثمَّ دخلت دير الرَّاهبات في سانت كلير بيلفادور على البحر الأدرياتيكي. وبحسن الحظ فإنَّ الإفريقيَّة الصغيرة المولودة برحمة الدِّيانة بين الأخريات من رصيفاتها، صاحبت الرَّاهبة أنجيلا ماري أركانتلي التي كانت تلطف الحياة القاسية للدير، وتهتم كل الاهتمام بالتقشف والنظام في ذلك المكان الضيِّق المحاط بأسوار سميكة لا تناسب مواقع لعب الأطفال في مرحلة الطفولة. ومن ثمَّ قليلاً فقليلاً تعلَّمت الفتاة الشابة طريقة حياة الإنسان الضعيف، وطلبت من أخواتها المعروفات اللائي تحبهنَّ أن يحذونَّ حذوها في الحياة التقشفيَّة. وفي أيلول (سبتمبر) 1856م باتت تُسمَّى باسم ماري-جوزفين في المسيحيَّة. إذ أصبحت ماري-جوزفين (زينب) عرَّابة بعد التأكيد والقربان المقدَّس الأوَّل، ثمَّ أعطيت قطعة أرض لمؤسَّستها، لكن بحكم أنَّها كاثوليكيَّة جديدة رفضت ربما بإحساس منها لطلب آخر، ووهبت حياتها للعبادة داخل سر الدِّير.
لقد كبرت ماري-جوزفين (زينب)، تلك البنت التي كانت صغيرة، وتقدَّمت بها السِّن قليلاً شيء من الرشد، وفضل من التروي، ولكن ليس بدون أن تخلق جوَّاً من الهرج والمرج في مداخيل الأزقة في بعض الأحايين. ثمَّ طلبت دمجها في المجتمع، ولكن تمَّ رفضها بطريقة مهذَّبة (لم يكن حماس الطفولة هو الذي يتحدَّث)، بل كان رفضها مقلقاً غامضاً. ماذا حدث لماري-جوزفين (زينب) بعد ذلك! أصبحت موهوبة بالموسيقى فطلبت الرَّاهبات من أستاذ الموسيقى قبولها، ولكنها بعد فترة وجيزة رُميت داخل جناح الكنيسة بحضور اللعب. وفي شهر تشرين الأوَّل (أكتوبر) 1860م تمَّت تسميتها أو ترشيحها في المرتبة الثانية لعزف آلة الأرغن بالدِّير. إنَّ الحماس الطفولي كان قد مرَّ، لكن لم تكن لديها الرَّغبة في اتِّباع اليسوع. وفي العام 1863م كتبت ماري-جوزفين (زينب) للأب أوليفيَّري تفسح عن رغبتها في اتباع اليسوع كليَّاً ودوماً. فقد فعلت ذلك مباشراً بعد 13 عاماً من الخطوبة، وهي السن المعتمدة، أو الحال الخاصة للإيطاليين في ذاك العصر كي تصبح مسؤولة.
في العام 1874م تمكَّنت ماري-جوزفين (زينب) من الحصول على إذن لاعتناق العقيدة المسيحيَّة سرَّاً وبأيَّة وسيلة. وفي الآن نفسه تمَّ الاحتفال بها بطريقة شعبيَّة في أزقة الدِّير. كان عمرها قبل ذلك العيد قد بلغ 28 عاماً، ثمَّ إنَّها كانت قد وصلت مرحلة الإغراء بسرعة فائقة. إذ كان ينبغي عليها تلقي الأوامر النِّسائيَّة الجديدة التي أسَّسها الأسقف دانيال كمبوني لإيجاد جيل من الأفارقة لابتعاثهم إلى إفريقيا بغرض التبشير الكنسي. وفي الآن نفسه كان مديرها الرُّوحي يرى بأنَّ هذا السؤال من عمل الشيطان، وكان يعتقد بأنَّ المكان المعد لعمل الوداع لحياة مليئة بالتأمُّل يكمن في تزويجها من رجل مسيحي. وفي 15 أذار (مارس) 1876م وجدت ماري-جوزفين (زينب) السلم، وعملت لتكريس حياتها المقدَّسة.
واصلت ماري-جوزفين (زينب) حياتها في التغيير، والكفاح ضد الانفتاح الكاثوليكي، وأشياء أخرى كانت ممنوع ممارستها من ضمن العادات الدِّينيَّة في إيطاليا. إذ قبلت ماري-جوزفين (زينب) بالطاعة، لكن ليس دون أن تلم بآثار المظاهر الخارجيَّة للدِّيانة المسيحيَّة. ومع ذلك لم تمر الحياة المجتمعيَّة دون مشكلات، فبعض الرَّاهبات كنَّ يردِّدن لها تلك المشكلات ربما فقط كعقوبة جسديَّة. لقد أقدمت ماري-جوزفين (زينب) على فعل ذلك كله بواسطة الطاعة تجاه رغبتها، وبذلك تكون قد ارتضت بالظلم. وفي العام 1901م تمَّ انتخابها مساعد للأسقف، وهي مسؤوليَّة جسيمة، وأٌضيفت إليها وظيفة التدريس كمدرِّسة للمبتدئات ورئيسة العلاقات العامة. وفي العام 1910م أصبحت قديسة الدِّير. إذ ذكر النَّاس الذين كانوا يعرفونها في عصرها آنذاك أنَّ تحت إدارتها كان هناك ثمة هدوء وتشجيع مشترك بطريقة في غاية الصرامة. فقد قالت في يوم من الأيَّام إلى مبتدئة: نحن لا ننسى أنفسنا شهداء بالدماء، لكنا نعاني ونضحِّي من الروتين اليومي كما يفعل الرَّب لإقناعنا. هذه هي الروحانيَّة التي تشبه المختصر في الإيمان. وفي نهاية حياتها أصبحت ماري-جوزفين (زينب) عمياء، وأُصيبت أرجلها المباركة بسوء حركتها، وتركت ذكريات ثريَّة، ثمَّ توفيت في يوم 23 نيسان (أبريل) 1926م، وبداخلها الإيمان الكلي بالرَّب، ومساحة للصفح والعفو عن خطاياها والتحوُّل الأبدي.