حول الرِّق.. ماضيه ومآثره (13 من 19)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
shurkiano@yahoo.co.uk
قصص وعبر عن المسترقين
لقد حفظ لنا التاريخ قصصاً عن أرقاء سابقين كانت لهم مآثر في هذه الحياة الدنيا، ووصلوا مراتب عليا، وذلك في المجتمعات التي سيقوا إليها، ووجدوا أنفسهم يباعون فيها كالأنعام متاعاً لأسيادهم. لقد تمَّ ابتياع أرواحهم لتجار الرِّق، ووُضعت الحبال الممدودة على أيديهم والشُعب الخشبيَّة على رقابهم نهاراً، وتمَّ تقييد أرجلهم بأغلال من حديد ليلاً، وتمَّ تحديد سعر رأس كل منهم حين يأتي الوقت للتخلُّص منه بيعاً، ثمَّ أُجبِروا على خدمة أسيادهم رغم أنوفهم. إنَّ الإساءة الإنسانيَّة، والرواسب العقليَّة والجسديَّة السالبة للأرقاء كانت أفظع، ثمَّ إنَّ معاملتهم كانت أبشع؛ إنَّهم فقدوا كل شيء في عوالمهم، وسلَّموا أجسادهم وأرواحهم لمالكيهم الجشعين الذين ظلوا يتغيَّرون من حين إلى آخر حسب العرض والطلب. ظلَّ هؤلاء التجَّار – وبئس التجارة – عديمي الأخلاق والضمير والرحمة والمسؤوليَّة، حتى حسبناهم أوراق الشجر الساقطة إثر هبوب ريح عاتية.
بيد أنَّ هؤلاء الأرقاء، وبفضل مثابراتهم ومجاهداتهم الذاتيَّة، استطاعوا أن يبلغوا مرامي الاعتراف، وأشفقت منهم الشعوب التي عاشوا وسطها، ومنحتهم ما هم أهل له من الإكبار والإجلال والاحترام. إذ نذكر منهم قيوسي سانتا ماريا التي اعتنقت المسيحيَّة وانتظمت فيها تقريباً في يوم 5 حزيران (يونيو) 1852م بعد التعليم والتدريب الكنسي من الأب أوليفيَّري. ثمَّ بُعِثت إلى سينقامبي وقضت ثمان سنوات، ومن بعد توفيت في العاصمة السنغاليَّة داكار في يوم 11 تشرين الأوَّل (أكتوبر) 1872م. ليست هناك ثمة أدلة تدلُّ على أنَّها سودانيَّة أو إثيوبيَّة، غير أنَّها كانت عبدة في مصر، ومن ثمَّ تمَّ شراؤها بواسطة فرانسيس سيرا بعد إصرار زوجته على شرائها لمساعدة الأب أوليفيَّري.
كذلك يذكر التاريخ باسفيكو إبراهيم ريقا الذي ولد في مدينة القاهرة من والده إبراهيم ووالدته فيور، ومن ثمَّ عُمِّد في المدينة إيَّاها. غادر والده تاركاً منزل الأسرة، ومن بعد توفيت والدته، فأصبح يتيماً وعاش في منزل امرأة فرنسيَّة لخدمة سيَّده السيِّد ريقا، ومن ثمَّ قام ريقا بإرساله إلى الأخ – بالمعنى الكنسي لكلمة أخ – لودوفيك العام 1857م. وفي العام 1861م أُدخِل المدرسة الابتدائيَّة، وذلك بعد حصوله على مساعدة ماليَّة في العام المنصرم، ومن ثمَّ انتظم العام 1868م في العمل الدعوي الكنسي. ومن بعد عُيِّن معلِّماً في كليَّة كمبوني في القاهرة، وبعدئذٍ رحل إلى فلسطين كأستاذ في اللغة الإيطاليَّة والموسيقى، وذلك قبل أن يعود إلى مصر العام 1884م وينشئ مدرسة الأقباط الكاثوليك. لقد توفي باسفيكو في 24 تموز (يوليو) 1911م في القدس، ويُعتقد أنَّه سوداني من جهة والدته.
تذكر كذلك السجلات الكنسيَّة بيتر أنتوني الماظ المنسوب إلى مكَّة المكرَّمة، ومن المحتمل أنَّه ولد في مدينة سواكن في البحر الأحمر ومنه أُسِر وسُيق إلى جدَّة في المملكة العربيَّة السعوديَّة، ثمَّ مكَّة وأخيراً إلى القاهرة. في العام 1857م تمكَّن بيتر من تلقِّي تعليمه في كليَّة نابوليتان، وفي العام 1866م تمَّ تنظيمه في الكليَّة، ومن ثمَّ عُيِّن مديراً للكليَّة واحتفظ باسمه حتى مماته في نابلس في يوم 2 كانون الأوَّل (ديسمبر) 1908م. الجدير بالذكر أنَّ في تلك الحقبة من القرن التاسع عشر تمَّ استيعاب واعتناق كثرٍ من السُّودانيين الديانة المسيحيَّة بواسطة نوبلشير وأندرو شريف. لعلَّ هذا الأخير كان أصله من النُّوبة في جنوب كردفان، وهو الذي ولد في توموليك بالقرب من منطقة تقلي حوالي العام 1840م، ومن ثمَّ تمَّ تعميده بواسطة نوبلشير العام 1855م، ثمَّ تعلَّم في كليَّة للتبشير بالعقيدة المسيحيَّة، وتوفي بعد أربع سنوات، وذلك بعد حياة مسيحيَّة رومانيَّة مليئة بالكرم وطيب النَّفس.
أما أليكسندر دومنت فهو ابن الصيدلي النابغ في مارسيليا بفرنسا. فقد عاش والده المزارع دومنت في مدينة ود مدني بالجزيرة في الفترة ما بين (1835-1843م)، وتمَّ تعميد ابنه أليكسندر في الخرطوم، ثمَّ تمَّ تعميده مرة أخرى بواسطة نوبلشير في يوم 14 آب (أغسطس) 1848م. إذ تبنَّاه أبٌ أوروبي، وهو في عمره الخامس، ومن ثمَّ تابع منحته الدراسيَّة في البعثة الكنسيَّة في الخرطوم، وتمَّ قبوله في الكليَّة الرومانيَّة العام 1856م، إلا أنَّ سوء حظَّه كبقيَّة رصفائه نجده كان قد عانى من سوء الطقس الأوروبي البارد فسقط مريضاً شديداً. سافر إلى مدينة نابلس في يوم 29 آذار (مارس) 1861م، وتوفي هناك في يوم 24 أيار (مايو) في أحضان كمبوني.
كذلك تذكر الوثائق الكنسيَّة آرثر مرسال الذي ولد في منطقة ريقنا في إفريقيا الوسطى حوالي العام 1863م، ودخل الكليَّة الرومانيَّة في يوم 13 آب (أغسطس) 1877م. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 1881م قويت أفكاره، لكنه غادر الكليَّة في منتصف العام الرابع. إذ توضِّح سجلات الكليَّة أنَّ هذا الرجل الأسود كان قد غادر الكليَّة لعدم التزامه بالدعاء الدِّيني. ومع ذلك، قبله الكاردينال لافيجيري في مدرسته في مالطا، وهناك درس الطِّب، لكنه توفي بعد عامين بعد أن فعلت الأيَّام أفعالها، وأحدثت الحياة آثارها، حيث كان محبوباً لدي الأب لالتزامه بالقوانين.
للمقال بقيَّة،،،
Sent from my iPhone