النٌطق مفاوضة والقصد مساومة حول ضعف النخب السياسية
د. قصي همرور.
معظم حركات التحرر الوطني، التي انتصرت على قوى الاستعمار في بلدانها، بعد نضال مرير، جلست في جولات مفاوضات مع ممثلي الاستعمار. وتعددت الجولات ومراحلها، وتباينت مواقف القوة مع كل جولة.
ومنطق حركات التحرر الوطني، وغيرها من حركات الحقوق، في الجلوس في تفاوض مع الاستعمار أو السلطة الغاشمة، منطق واضح وغير معقد: التفاوض غالبا ما يكون مع الخصم وليس مع الحليف؛ يكون مع العدو وليس الصديق. والتفاوض ليس صيغة واحدة إنما صيغ وسياقات متعددة. لكن كانت حركات التحرر الوطني عندما تأتي لطاولة المفاوضة تأتي بمبادئ أساسية، ولا تخرج من الجلسات وقد غيّرت مبادئها، أو نسيت أنها أمام عدوها، أو نسيت تاريخ الصراع، إنما تعطي الخصم فرصة للجلاء وتسليم السلطة بخسائر أقل مما لو أصر على عدم الجلاء.
لذلك لم نسمع بحركة تحرر وطني ناجحة، دخلت في مفاوضات مع المستعمر، ثم خرجت من المفاوضات وقد قبلت بتغيير مبدأ أساسي من مبادئها، وهي لا تجد في ذلك حرجا. لم نسمع بحركة تحرر وطني ناجحة دخلت المفاوضات، ثم خرجت وقالت للجماهير: بدل مبدأ الجلاء التام، وترتيب إجراءات تسليم وتسلم السلطة من الاستعمار، وصلنا لخيار أن نتشارك السلطة: نصفها لنا ونصفها للمستعمر، ونحن بذلك أنجزنا خطوة كبيرة وحققنا دفعة لحركة التحرر، ثم تدريجيا عبر العمل معا – في هذه الشراكة “النادرة” – سنصل لتحقيق أهداف التحرر الوطني. لو قامت أي حركة تحرر وطني بمثل هذا – أي قبلت بنصف جلاء، والذي هو في الواقع لا جلاء ولا يحزنون – لما تجرأت على أن تصف مسعاها بالنجاح. (وهنالك استثناءات نسبية، تثبت هذه القاعدة أكثر من نفيها: فمثلا عندما قبل المؤتمر الوطني الافريقي في جنوب افريقيا بالتفاوض مع الحزب الوطني – حزب الأبارتيد – دفع بأجندة التحرر من الأبارتيد بصورة أدّت إلى تفكيك نظام الأبارتيد سياسيا وتفكيك الحزب الوطني نفسه، ومراجعة كبيرة لأوضاع الناس والحقوق في جنوب افريقيا؛ لكن فشل في التمسك بضمانات لإعادة توزيع الثروة وكذلك المحاسبة الحقيقية على الجرائم السياسية والعنصرية التي جرت في زمن الأبارتيد، وذلك الفشل دفع ثمنه أغلبية سكان جنوب افريقيا في السنوات اللاحقة، بصورة أفقدت ذلك النموذج بريقه الأول الذي ظهر في منتصف تسعينات القرن الماضي، ولم يعد الآن نموذجا يسعى لتكراره أي ثوّار جادون–إنما يسعون للاستفادة منه كدرس في أهمية الربط القوي بين أجندة إعادة توزيع السلطة وأجندة إعادة توزيع الثروة).
الموثق عندنا، من التاريخ القريب جدا (ولنترك تاريخ التكرارات الكثيرة في سودان “العهد الوطني” حاليا)، أن قوى الحرية والتغيير (قحت) دخلت في مفاوضات مع المجلس العسكري، وفق تفويض لها جاء من الجماهير التي أنجزت شيئا جبارا قاد إلى سقوط نظام شمولي عنيف. فوّضت الجماهير قحت لكي تفاوض العسكر في ترتيبات التسليم والتسلم، فقامت قحت بتغيير شروط التفويض ودخلت في تسوية وشراكة مع المجلس العسكري، ثم خرجت واجتهدت في أن تحاول إقناع الجماهير بأن ذلك كان إنجازا وانتصارا للثورة. وبلغ الأمر برموز قحت لأن يصفوا تلك الشراكة بأوصاف عالية البهاء، لدرجة صاروا بعدها يقدمون خدمات إعلامية مجانية للمجلس العسكري لتحسين صورته أمام الجماهير باعتباره شريكهم الآن في السلطة. وفي تلك الشراكة تم تسليم المجلس العسكري مقابض السلطة الكبرى في الدولة، وقد استعملها جيدا في إبطاء وعكس جهود الحكومة الانتقالية الموافقة لأهداف الثورة (فحتى الجهود الإيجابية المحدودة التي حصلت في الفترة الانتقالية لم تسلم من محاولات التخريب والتعطيل). ثم مع تفاقم الأوضاع، واتضاح حقيقة بؤس الشراكة، بدأ منسوبو قحت بإعلان انزعاجهم، ومحاولة الرجوع للجماهير لينصروهم على حلفائهم (والذين لم تتحالف الجماهير معهم إنما قحت هي التي تحالفت معهم، بينما صادمتهم الجماهير وهزمتهم عمليا مسبقا). والجدير بالذكر أنه قبل الوصول لتلك الشراكة أثبت المجلس العسكري أكثر من مرة أنه ليس أهلا للثقة، ومن تلك المرات الفصيحة جريمة مذبحة اعتصام القيادة العامة (بالتزامن مع جرائم تدمير اعتصامات أخرى في شتى أنحاء السودان)، والتي خرجت منها قحت تترنح وتقول إنها تعرضت لخيانة عالية، فالتقطت الجماهير أدواتها الثورية مرة أخرى وقامت بالعصيان المدني، الذي سرعان ما قامت عناصر من قحت بإقناع الناس برفعه “لكي لا يفشل” (وهو كان في بداياته في الحقيقة، لكن من لا يفقهون معنى العصيان المدني ظنوه بدأ ينحسر)، ثم استمرت تلك الجماهير في فعلها الثوري المباشر (direct action) ووسعت المقاومة في شتى بقاع البلاد، منذ بدايات يونيو 2019 وحتى 30 يونيو، بحيث أقنعت المجلس العسكري الانقلابي بإعادة استدعاء قحت لمواصلة التفاوض، ولم تخيّب قحت ظنهم فعادوا للمفاوضات مرة أخرى فعلا وخرجوا لنا بخلطة عسكدنية لا تشبه الثورية في شيء وكان مكتوب عليها الفشل منذ ميلادها (كما كتبنا عنها وكتب آخرون منذ تلك الأيام).
وبطبيعة الحال فرموز قحت لا يمكن أن يقبلوا السردية أعلاه، بل فعلوا وسيفعلوا بما بوسعهم لبذل سرديات أخرى، تظهرهم بمظهر أقل إحراجا. من تلك السرديات أن المجلس العسكري ضاق ذرعا بقحت فعليا لأن قحت دفعت في اتجاه تحقيق أهداف الثورة ولم يكن المجلس العسكري بقادر على قبول ذلك، فانقلب على قحت في النهاية. بهذه الطريقة تبدو قحت وكأنها كانت هي المُخلِصة للثورة، في حين أن هذه السردية بدأت العد من الرقم 2 أو 3 ثم واصلت العد (مع تعديلات خفيفة)، لتخرج سردية مختلفة جدا عن السردية التي تبدأ من 1 وتواصل السرد. في سردية قحت هذه، تكاد تكون قحت ورموزها نسوا أو تناسوا تماما أن الجماهير كانت قبلهم وأمامهم في رفض الثقة بالمجلس العسكري وفي رفض إعطائه أي فرصة لتخريب الثورة من داخلها، بينما كانت قحت تظن أنها أنجزت إنجازا عظيما عبر التسوية والشراكة. لن تعترف قحت بأن الجماهير التي تنكّروا لشروط تفويضها كانت منذ البداية أعلى فطنة وأكثر حرصا على الثورة من كبار سياسيي قحت، وأن ما حصل هو أننا اضطررنا لدفع فاتورة عالية، مقدارها عامين من الحكم الانتقالي المتعثر والمتناقض داخليا، حصلت فيه كل الرداءات والانتهاكات التي خرجت الجماهير ثائرة بسببها من قبل، ومقدارها تكرار تجربة الانقلابات العسكرية بعد أن بلغ الظن ببعض المحللين والمتحدثين السياسيين أن يقولوا إن السودان لا يمكن أن يحصل فيه انقلاب عسكري مرة أخرى بعد ما جرى من بطولات الحراك الثوري الذي تبلور في ديسمبر 2018 واستمر حتى أبريل 2019. تلك الانتكاسة الكبيرة، والعودة لدفع تكاليف عالية، هي نتيجة سيناريو تغيير معين، لم يكن الخيار الوحيد لقوى الثورة وقتها، لكن قيادات قحت قامت فيه بتغيير لشروط التفويض (the mandate) في التفاوض مع المجلس العسكري وتحويلها لمساومة، تقتضي تسوية وشراكة مع من قام الحراك الثوري ضدهم. تلك الانتكاسة، وتلك العودة القهقرى في تحقيق أهداف الحراك الثوري، من مسبباته أن قيادات قحت لم تكن في مستوى بصيرة الجماهير في شأن معرفة العدو والالتزام بالمبادئ الثورية؛ ثم بعض قيادات قحت الآن تريد أن “تلكشر” الجماهير مرة أخرى حول الحكمة والواقعية وأهمية التفاوض مع الانقلابيين.
فمشكلتنا الكبرى الآن ليست في نوايا من يقودون قحت ويرسمون أجندتها – أي المؤثرين فيها – أو من يقودون جهات سياسية أخرى ذات قواعد سياسية واسعة وذات بصيرة قيادية ضعيفة. مشكلتنا ليست نواياهم، ولا نريد حتى الخوض فيها (رغم أننا لو افترضنا حسن النية لدى بعضهم، فالبتأكيد ليسوا كلهم، كما أن حسن النية وبعض السمات الشخصية ليست مؤهلا كافيا لتقدم صفوف حراك ثوري مصيري). مشكلتنا هي غياب القدرة على التعلم من دروس التاريخ الواضحة، المباشرة، ومعها غياب الشجاعة الكافية المطلوبة للمراجعة والنقد الذاتي الحقيقي (وليس النقد الذاتي السطحي، الذي يضاهي في سطحيته مستوى الحذر السياسي الذي جعل قحت تدخل في مساومة سابقة مع المجلس العسكري).
فما يجري إذن حاليا، من دعوات للتفاوض مع الانقلابيين، والحديث بأن هذه المرة مختلفة، ربما لا يصح تسميته دعوات للتفاوض، إنما دعوات واسعة للمساومة. المفاوضة الحقيقية مبنية على مبادئ ثورية، يدخل بها الناس المفاوضات ويخرجون بها منها، بينما هذا الذي يجرى أمام أعيننا محاولات لتهيئة الجماهير لمساومة أخرى، بذاكرة سمكية.
عندما دخلت قوى الحرية والتغيير المفاوضات مع المجلس العسكري في 2019، كانوا يقولون ويكتبون أن مبادئ المفاوضة عندهم واضحة، ثم اتضح لاحقا أنها لم تكن كذلك، بل اتسم أداء الفرق المفاوضة بالكثير من الضعف والإهمال، وقلة الدربة وقلة الاستماع لنصائح الخبراء [وهذا الضعف الفني لا يعذر الضعف السياسي إنما يزيد من بؤس الموقف]. ثم انتهى بهم الأمر إلى شراكة أعطت المجلس العسكري معظم ما يريده. أي أن قحت قالت شيئا وفعلت شيئا آخر، ومن تناقضها ذلك أنها دخلت المفاوضات بالطريقة الخاطئة وبالأداء الخاطئ. والآن يريد بعض السياسيين – من داخل قحت وخارجها – تكرار تلك المأساة، ويتوقعون من الجماهير أن تسلّم لهم الأمر مرة أخرى وتعتمد على “حكمتهم” و”عمق” قراءتهم للأوضاع!
ما الخيارات الأخرى؟
ثم يظهر نفس الخطاب البائس الذي كانت تروج له القوى والقيادات السياسية في 2018 التي اختارت خط المشاركة في انتخابات 2020 تحت سلطة الإنقاذ وبررت لموقفها ذلك بأنه لا توجد طريقة للتخلص من نظام الإنقاذ غير قبول العملية السياسية تلك وأن الخيارات الأخرى تؤدي لطرق مسدودة. وطبعا أثبت الشعب لأولئك السياسيين أن الخيارات الأخرى ممكنة عمليا، وقادوا حراكا ثوريا (هو في مجموعه تراكم لخبرات وتجارب سابقة صامدة، لم تفشل تماما وإنما خسرت جولاتها وشحذت أدواتها) أدى في المحصلة لسقوط نظام عالي الشمولية والبطش بصورة فاجأت من لا يتفاجأ. بعد ذلك رجعت تلك القوى والقيادات السياسية، ومع غياب التنظيم المستدام والقوي الذي كان يمكنه تمثيل الجماهير الثائرة، حصلت تلك القوى على تفويض جماهيري واسع، كان منطقيا في وقته، وكان يمكنها عبره أن تطهّر نفسها من إخفاقات وخذلانات الماضي، لكنها بدل أن تبقي المفاوضة محصورة على عملية التسليم والتسلم، حولتها لمساومة وأصبحت عملية تسوية وشراكة مع عناصر قوية من النظام البائد.
والآن، يقول لنا من يريد تكرار المساومة – وليس المفاوضة – أن ليست هنالك خيارات أخرى أكثر واقعية، وهو نفس الحديث الذي استعمله الداعون للمساومة مع نظام الإنقاذ في 2018، بتبريرات متعددة. لكن الإجابة عليهم الآن ينبغي أن تكون أقوى، لأنها مسنودة بالواقع القريب، الملموس، فالخيارات البديلة أثبتت جدارتها قبل اليوم، وقد ثبت أن الجماهير قادرة على سلوك دروب العصيان المدني الواسعة والصبورة، وقادرة على ابتكار طرق متنوعة وفعالة في المقاومة وفي إعادة ترتيب نفسها ثم الانتقال المقدّر من الحشد إلى التنظيم (وهو انتقال قد يكون متعثرا وقد يكون أطول مما نتمنى، لكنه بالتأكيد أسلم وأكثر استدامة من خيار المساومة المستعجل والمتبلّد تاريخيا)، ثم هي تتعلم الآن كيف يمكن أن تتولى قوى الثورة سلطة الدولة نفسها فتواصل تحقيق أهداف الثورة عبر أجهزة الدولة.
وهنالك فرص وخيارات تتوسع وتكبر مع التجربة، وتحالفات جديدة تظهر وتتمدد بين القوى التي ظلت دوما في جانب التغيير الثوري/الجذري واشتغلت من أجله وفق زاويتها وأدواتها المشروعة؛ فهذه مرحلة تأسيسية، تأخرت بسبب ضعف التعلم من تجارب التاريخ المتكررة، ولأسباب أخرى، لكنها تستعيد توازنها، ولن يضيرها شيء، في ميزان التاريخ، مثل الضرر الذي يمكن أن يلحقه بها المساومون بلا مبادئ ثابتة، والمستعجلون بلا انتباه لاستيفاء شروط العمل الثوري المنظم والمستدام.
ومن سؤال “ما الخيارات الأخرى” ينبع أيضا حديث هلامي مماثل، هو حديث “أهمية توافق قوى الثورة”، وهو ما يمكن وصفه بقولة حق أريد بها باطل. فتوافق قوى الثورة، كعبارة مجردة وعامة، شيء إيجابي ولا شك، لكن التفاصيل في ظروف الثورات ينبغي عندها الإجابة على “من/ما هي قوى الثورة” و”ما الذي تتفق حوله”، فالسؤال الأول يتطلب رصيدا مشهودا في الانتماء للخط الثوري، والسؤال الثاني يتطلب محتوى ثوريا ومنهجيا لا يصلح فيه “الخم” السياسي والأماني بلا أفكار. بعد الإجابة على السؤالين هذين، فقط عندها يمكن استعراض فرضية أهمية توافق قوى الثورة.
النظر من قاع البئر
من الأقوال المأثورة، والمتجاوزة لمصدرها، ما هو منسوب لماوتسي تونغ، حين قال: “نفكّر عادة في نطاق ضيق جدا؛ مثل الضفدع الذي يقطن في قاع بئر، يظن أن السماء كبيرة بحجم محيط البئر فحسب. أما إذا خرج من البئر فسيرى الأمور بمنظور مختلف جدا.”
أًصحاب خيار التسوية والشراكة مع السلطة الانقلابية الحالية، في السودان، كثيرا ما يزعمون أنهم الأقرب للحكمة والواقعية/العقلانية في تناول السياسة، فرغم أن بعضهم يتعاطف نظريا مع رفض التسوية والشراكة إلا أنهم يقيّمون محدوديات الممكن–هكذا يقولون.
بيد أن هنالك علامات تشير إلى ضعف أصحاب ذلك الخيار في مضمار الحكمة والواقعية نفسه، ومن تلك العلامات اثنان:
– أولاها: غياب التعلم من التاريخ. ونحن هنا لا نتحدث عن تجارب قديمة فحسب بل من التاريخ القريب كذلك. وغياب التعلم ذلك يؤدي كثيرا إلى تكرار التجربة (كل تجربة لا تورث الحكمة تكرر نفسها) وبتكلفة باهظة تدفعها الجماهير غالبا. فالعجز عن استقاء الدروس التاريخية مؤشر لضعف الواقعية/العقلانية عند هؤلاء (إذا قبلنا لبعض الوقت أنهم جميعا صادقون في مساعيهم وأن أجندتهم متطابقة مع مصالح وطموحات الجماهير، وأنهم جميعا ليسوا رهائن لامتيازاتهم وعمليات إعادة إنتاج نفسها. ونحن رغم أننا نحسب أن بعضهم صادقون فعلا و”كويسين” فعلا، إلا أنهم ليسوا جميعا كذلك).
– ثانيها: نسيان أن الحكمة تقتضي اعتبار النظر بعيد المدى وليس قصيره ومتوسطه فحسب، فبينما التسوية والشراكة لا يمكن الدفاع عنهما إلا في إطار حسابات قصيرة المدى إلى أنها تغفل عن الطبيعة بعيدة المدى لبناء دولة المؤسسات والحوكمة؛ فالحكمة إذن تقتضي إيثار الحلول التأسيسية القوية، وإن تطلبت المزيد من الوقت والطاقة، على التسويات التي قد توفر بعض الوقت والطاقة آنيا ثم تكلفنا تكلفة أعلى بكثير لاحقا.
والعلامتان مترابطتان، متداخلتان، فلدينا دروس تاريخية واضحة وقريبة بخصوص بؤس خيار التسوية وسوء رصيد طالبيها، ثم لدينا دروس حول ضرر التسوية على مساعي التأسيس لشروط حياة جديدة للجميع، ثم لدينا أناس لا يستفيدون ولا يتعظون من كل ذلك، ثم هم يزعمون أنهم أهل حكمة وواقعية. تحدثنا وتحدث غيرنا، من قبل، عن الحلقة التاريخية البائسة التي ظلت تتكرر في قصة السياسية السودانية ما بعد الاستعمار – مع تفاوتات في التفاصيل لا تغيّر النتائج الكبيرة حتى الآن – وأن مصير البلاد وأهله يتطلب الخروج من تلك الحلقة حتى ننطلق قدما في مسيرة التطور التاريخي؛ بيد أن بيننا من يصرون على التكرار، وتبرير التكرار بأنه أفضل ما هو ممكن وأنه ليس تكرارا، بينما النتائج ماثلة أمامهم، فماذا أعطوا للكياسة والفطنة (دع عنك الثورية والمنهجية)؟
تمايز الصفوف، مرة أخرى
قال الأستاذ محمود محمد طه ذات مرة: “التفكير المعوج بالتمني من صفات الطفولة؛ الأطفال يتمنون ولا يفكرون. والعاطفة أشرف من أن يُنسب لها هذا العمل، لأن العاطفة في الحقيقة هي وقود الفكر. العاطفة تتسامى بالفكر، والفكر يطهّرها وينقّيها ويجعلها إنسانية. نحن كثيرا ما نقول “هذا كلام عاطفي” و”هذا حل عاطفي”…. أحب أن نصحح الوضع بأن نقول إن المسائل أقرب إلى التمني والأحلام منها إلى التفكير والدراسة.”
وخطورة التفكير المعوج بالتمني، هذا، أنه لا يفصح عن نفسه كذلك، بل ربما يتظاهر بالخبرة السياسية و”العقلانية”. لكنه ينكشف في المحكات، وأحيانا بعد أن يودي بالناس إلى أخطاء مكلفة، مثلما حصل مع ما وصفناه بالخلطة العسكدنية آنفا، ومثلما يسعى الآن لتحميلنا المزيد من التكلفة المستقبلية الباهظة نظير مكاسب سياسية آنية مهتزة ومؤقتة.
مما نوقش سابقا، في هذه المسألة، أننا بحاجة فيها لحصول تمايز في الصفوف؛ وهو تمايز على أساس طرائق التفكير والتنظيم، وليس على أساس الأماني–فليس كل من يريد “التغيير” (وبالأصح يتمنى التغيير) يريد نفس التغيير أو يعرف ويقبل تكلفته. مجرد الرغبة في التغيير أمنية، أما المطلوب فهو محتوى الكيف. ومن الأماني الممتدة من هذه الأمنية كذلك أمنية “توحد/توافق القوى المعارضة” بينما التفكير يتطلب التوحد أو التضامن بين القوى التي تتشارك اشتراكا كافيا في الاتجاه والمنهج، فغير ذلك يؤدي لتشوش العمل وذوبان الفكر في حوض الأماني، ما يؤدي لتأجيل مواجهة القضايا المهمة وتأجيل المعارك المهمة. والتمايز الذي نعنيه لا يعني بالضرورة انقطاع الصلات التام أو الدفع لخصومات على المستويات الشخصية، بل تمايز بين المعسكرات السياسية وفق ما ينبغي التمايز وفقه: الاتجاهات والمناهج. عبر تمايز الصفوف نستطيع التمييز بين الثوريين وبين الإصلاحيين، ونستطيع التمييز بين من يتعاملون مع عملية بناء الدولة كعملية جادة ومعقدة فنيا وهيكليا، وأخلاقيا، من ناحية، وبين من يتعاملون معها كعملية مراكمة امتيازات وصلاحيات بدون أهلية فنية و/أو محسابية أخلاقية، وكعملية سرد للأماني والطموحات لتحقق من تلقاء نفسها، من الناحية الأخرى.
وللحديث شجون….