السودان وأسئلة الاجتثاث الثوري
مهنا الحبيل
في مناقشة فكرية على “تويتر”، لفتت نظري حِدةٌ لم أعهدها عن أهل السودان. قبل أن أذكر سبب الخلاف، اُعيد تصوير الشخصية السودانية في الضمير العربي، وقد ربطتني علاقات قوية بمثقفين متعدّدين من أهل السودان، من الاتجاه الإسلامي وغيره، وهي صورة حقيقية أحسبها عميقةً في وجداننا الداخلي، خلافاً للصور النمطية الاستهلاكية اللئيمة التي يتبادلها، مع الأسف الشديد، خطاب السفهاء في أقطار الوطن العربي، سواء من خلال لعبة الأنظمة الرسمية في الشعوب، أو الاعتراف الضروري بأن قلب المشكلة في المجتمع العربي، من المحيط إلى الخليج، هو الانحراف عن المركز الأخلاقي.
ظل الإنسان السوداني في صورته الأصلية مضرب مثلٍ في المروءة والتضامن الاجتماعي في الغربة. ومع ذلك، كان نموذجا للعقل المثقف الواعي المتعدّد، مع تواضعه في السلوك وبساطته، وهذا لا يعني أن ليس للقاعدة شواذّ، كما أن المصالح وضيق المعيشة ومصادر الرزق تلعب دورها في موقع المثقف، ولكنها حالةٌ لم تُغير من إنسان السودان، كما فعلت في غيره من أقطار عربية أخرى، وليس صحيحاً أن الفكرة العربية في أوساط المثقفين تجهل خصوصية المثقف السوداني، وهو أن عروبته أو انتماء بعض مثقفيه للقبائل العربية، لم يمنع مطلقاً ثنائية السودان المشتركة بين الوطن العربي المندمجة مع إنسان أفريقيا، أكان من المسلمين أو غير المسلمين، فهي أرضية تعدّد وقيم شراكة ضاربة في التاريخ.
روح المثقف التنويري في السودان قد تختلف أخلاقياً بين المثقف المتأثر بالتولّه الكولونيالي عن المثقف المـتأثر بالبعد الإسلامي
أكّدتُ ذلك لأن بعض الهجوم الذي وصل إلي كان “لجهلكم في الخليج” تعدّدنا الثقافي في السودان. أمرٌ آخر، أن قوة المثقف السوداني أيضاً كانت حاضرة في تشكل العقل العربي الجديد، وتميّزه في التقاطع مع الفكر والفلسفة الغربيين، إلا أنهُ لا بدّ من الإقرار بأن روح المثقف التنويري في السودان قد تختلف أخلاقياً بين المثقف المتأثر بالتولّه الكولونيالي عن المثقف المـتأثر بالبعد الإسلامي، فبعضهم تصدُر منه إشارات تحتقر عطاء الشرق (بتعريفه الفكري لا الجغرافي) الممتد في تاريخه الحضاري. وبعض آخر لا يزيده علمُه في مؤسسات الغرب إلا استقلالاً معرفياً وسلوكاً أخلاقياً، وأحسب أن حضور الإسلام، قيمة وتربية محاضن، يلعب دوراً كبيراً، رغم أن بعض المستعلين، قد يكون رضع من زوايا التصوف والخلاوي، لكنه يشمئز من أي رابطةٍ مع الإسلام والمسلمين.
تذكّرت هذه المعادلة إثر حملة الهجوم والسُباب التي تعرّضتُ لها من قلة من الشباب السوداني، وفيهم من يبرّر ذلك بأنك مجرّد إنسان من أهل الخليج العربي ( …)، وهي لغة غير معتادة من الضمير السوداني، لاحظتُ حينها أن غالبية أولئك الشباب يتخذ الخطاب الثوري عبر منصّة ملاعنته، والتي يجدها مبرّراً لاحتقار كل من يخالفه، بعض الموقف مفهوم من خلال عقود عسف الاستبداد في عهد نظام الإنقاذ، وما تبعه من سقوط الشهداء في مصادماتهم مع المجلس العسكري.
وقد كان الباعث المثير لهذه الملاعنات إشارتي إلى ذكريات الشيخ حسن الترابي ونقده الذاتي تجربته وعسكرة “الإنقاذ”، وضرورة فهم خلاصاته، وعدم إسقاط مرجعيته الفكرية المهمة لتجربة السودان، والتي تقوم على فرز خطاياه من خلاصة أفكاره. واليوم يعود بنا المشهد في مركزيةٍ مهمةٍ تحتاج أن تُدرّس. ومع أولوية حق أهل السودان، إلا أن ذلك لا يمنع من مشاركة القلم العربي الاهتمام بطموحات النهضة لشعوبنا العربية جميعاً.
سؤالان مهمان في تحديد المسار الضروري، الأقل خسارةً والأكثر مصلحة لشعب السودان ووحدة ترابه، وتثبيت السلم الأهلي بين أقاليمه
يأتي هذا المقال بعد إعلان رئيس المجلس العسكري (الحاكم) عبد الفتاح البرهان رفع حالة الطوارئ، بسبب ما سمّاه تمهيداً لجولات الحوار الوطني، وهو أمرٌ يشتدّ فيه الخلاف بشأن مصداقية المجلس العسكري لدى تيارات الثورة. وهنا يقفز أمامنا سؤالان مهمان في تحديد المسار الضروري، الأقل خسارةً والأكثر مصلحة لشعب السودان ووحدة ترابه، وتثبيت السلم الأهلي بين أقاليمه. ومن جهة أخرى، فتح باب أمل في الانتقال إلى مقدّمات تنمية، ومساحة مشاركة شعبية تتجاوز إرث الماضي المؤلم. وهي صورة يجب التعامل معها بحذر شديد، حين نقارن مآل دول الربيع العربي وخذلان المركز الغربي للشعوب، أمام عودة نظم الاستبداد وتوحّشها. والزاوية الثانية خطورة تحوّل الواقع السياسي بعد الثورات المضادّة من صراع في الدولة إلى صراع على الدولة وهيكلها وجغرافيتها. وهو ما يقتضي، على الأقل، مطارحة الحد الأدنى من التوافق الوطني الممكن، وصناعة مشروع انتقالي لا يُقر مرجعية المجلس العسكري في مشروعه السياسي، لكنه يتعامل مع الفترة الانتقالية بتجاوبٍ يضمن الخروج إلى برلمان وحكومة منتخبة، حتى ولو لم يكتمل إطار الدولة المدنية المطلقة غير المتفق على مرجعيتها بين أهل السودان. وهي أحد الأسئلة التي تُوجّه إلى جناح الاجتثاث الثوري الذي تقوم معادلته على أرض صفرية، تجمع كل من يخالفها مع إرث “الإنقاذ”، والمجلس العسكري، فهل هذا الاجتثاث متاحٌ وهل هو الحل، وهل هيمنة المعسكر الشيوعي، أو الليبرالي المتطرّف، على آليات الاجتثاث، سوف تنتج بديلاً أفضل.
هل هناك قاعدة شعبية لغالبيةٍ تؤمن بأن تيار الاجتثاث الثوري مفوّض في تحديد المرجعية المطلقة التي ترفض، بكل عنف فكري، مجرّد الاعتراف بقيم الإسلام، من دون أن تُفرز أو تُقهر حقوق الأقليات، بل المجتمعات الشريكة في تاريخ السودان، هل خلاف الشارع العام مع عهد الإنقاذ، ومع المجلس العسكري، هو بالدرجة ذاتها، وبالمفصلية التي يتبناها تيار الاجتثاث الثوري، ومن يمثل تيار الاجتثاث الثوري، وما هو موقفه من بقية تيارات الثورة، وموقف تيارات الثورة منه؟
المركزية الأهم هنا، وحفظ حق الشهداء، أن تُقدّم الأولويات الأساسية لاستقرار الوطن، ويُضغط على المؤسسة العسكرية لمنع التغوّل العام، وتُوسَّع مساحة الشراكة الشعبية، لتتمكّن الإرادة المدنية بمفهومها السوداني الجمعي، من تأسيس قواعد الدولة المدنية البديلة، قبل أن يُسرق قميص عثمان الذي اتخذه عبد الفتاح السيسي جسراً لجحيمه على أهل مصر.