هكذا “يحتفي” أهل جبال النوبة بالموت
تُعد منطقة جبال النوبة من المناطق ذات الإرث التراثي والثقافي المميز، واحتلت موقع جنوب السودان بعد انفصال جنوبه عن شماله فالعام 2011. وما يميز تراث المنطقة أنه ظل بكراً ولا يزال الناس يحافظون على عاداتهم وأعرافهم وتراثهم المادي المرتبط ببيئة المنطقة المكونة من 99 جبلاً، وزينتهم المكونة من ريش الطيور وجلود الحيوانات والخرز المصنوع من أسنانها، والرقص والغناء بالإيقاعات المحلية في المناسبات، ومنها الاحتفاء بالموت ضمن سلسلة من الاحتفالات المُسماة الأسبار. والسبر هو احتفال سنوي لإبعاد الأرواح الشريرة، والإعلان عن بداية موسم جديد، ومنها سبر المطر وسبر الصراع (المصارعة) وسبر النار (الحصاد) وسبر الصيد، وسبر السباق.
فلسفة الحياة والموت
يكمن تعظيم احتفالات الأسبار في ربطها بالروحانيات والعلاقة بين الحياة والموت، واختلاط تفاصيلهما التي يقوم بها “الكجور”، وهو قائد روحاني في مقام رجل الدين. وهذا ما جاء في كتاب بدر الدين الهاشمي “السودان بعيون غربية”، الذي حوى ترجمة مقالة الإداري البريطاني بي. دي. فليتشر عن احتفال السبر في مدينة الدلنج التي حضرها في 28 أكتوبر (تشرين الأول) 1922. وحكى أنه “صعد نحو بيت الكجور في الجبل حيث كان يقيم في عزلة قضاها لنصف عام، للقيام بمهمة إنزال المطر”.
ويواصل فليتشر “عند دخول المك (السلطان) على الكجور لوح بعصاه وهو يهتف داعياً الإله “أرو” للاحتفال. ورددت كاهنات حضرن الاحتفال الدعوات لإله الجبل، ثم دخل المك والكاهن والكجور في نوبة ارتجاف عنيفة، وذلك يعني هبوط إله الجبل عليهم لتبدأ الكاهنات النياحة حتى نهاية الاحتفال. ومن ثم نهض المك يؤدي رقصة (ملوكية) تبعه الكجور والكاهن في تقليد الرقصة، وهم يرتعشون في حضرة الإله “أرو”.
ويضيف فليتشر أن “هذا الطقس الديني تواصل بدخول الكجور في نوبة ارتجاف أشد عنفاً من الأولى، مع إصدار صوت نخير إشارة إلى أن الإله أرو (الإله الرئيس للجبال) قد هبط عليه، فغطى المك الكجور بقطعة قماش ملونة، وأوصله حيث رقد، ثم دخلت الكاهنات إلى غرفته حبواً على رُكبهن، وقبلن رجلي الكجور، ثم عدن لأماكنهن بالطريقة نفسها.
بعدها خرج الكجور والمك دلالة على وصول الاحتفال إلى ذروته”، “وحين أصدر الحضور صرخة تردد صداها في أرجاء الجبل، تشير إلى إيمانهم بأن تعثر الكجور وسقوطه في تلك اللحظات يعني أن كل فرد منهم سيسقط ويفارق الحياة من فوره”.
واختتم مشاهداته، “بعد ذلك لوح الكجور إلى الجهة التي ينبغي عليهم الزراعة فيها. أُعيد الكجور وسُجى بالقطعة متعددة الألوان، وظل ممدداً في حال تشبه الغيبوبة التامة إلى أن يُذبح ثور تُستخرج من شحمه قطعة توضع عند منخاري الكجور فيفيق، ويمارس حياته الطبيعية، ويدخل الحضور في احتفالات وألعاب لأيام عدة”.
تنوع الطقوس
يقول معتمد الرئاسة السابق في ولاية جنوب كردفان، بابكر كوكو، لـ “اندبندنت عربية”، “ثقافة جبال النوبة متعددة ومتنوعة، إذ تعتمد في تركيبتها السكانية على عدد من الإثنيات، وتوجد قبائل قديمة هاجرت من دارفور الكبرى واستقرت في جبال النوبة مثل الفلاتة والفور، وهناك أيضاً مجموعات من قبائل الشايقية والجعليين التي جاءت بغرض التجارة”.
ويضيف كوكو أن “الاحتفال يقوم به الكجور، وهي مرتبة دينية تتوارثها الأجيال، وكل كجور مسؤول عن سبر أو طقس من الطقوس، فمثلاً هناك كجور مسؤول عن المطر، وتأتي مجموعة من الرجال والنساء والأطفال يقفون أسفل الجبل وينادون الكجور حتى يخرج إليهم، ويطلبون منه أن ينزل المطر. وهناك كجور مسؤول عن الرقصات الشعبية وأشهرها رقصة الكمبلا ويُسمى الطقس “سبر الكمبلا”، ومنشأها شرق مدينة كادوقلي وتقام لمجموعة من الشباب تتم تهيئتهم لتحمل المسؤولية، فيُختار التوقيت بداية الخريف وتبدأ حفلات الرقص ويُجلد الشباب على ظهورهم العارية لاكتشاف مقدرتهم على التحمل والصبر.
والرقصة نفسها يظهر فيها عنفوان الشباب، وفي المقابل ترقص البنات ويلوحن للأولاد بأذيال الثيران بطريقة أشبه بالهش، ويشهد اليوم الختامي لهذه الاحتفالات رقصاً حتى صباح اليوم التالي، ثم يذهب الجميع إلى منزل الكجور ويُقام الرقص أيضاً في منزله، ثم يُنقل الأولاد إلى معسكر لتطبيب جروحهم، ويلتزمون بنظام صارم في فترة تهيئة لتحمل المسؤولية”.
سِبر الموت
يقول كوكو عن سِبر الموت، “يحتفي النوبة بالموت عبر طقوس سِبر خاص يُسمى (بانقو)، وترتفع قيمة الاحتفاء به لقدسيته، وهو أكثر أهمية من الاحتفاء بالأسبار الأخرى، المطر والمصارعة وغيرها، نتيجة للاعتقاد في الانتقال من الحياة المادية إلى الحياة الروحية”.
ويتابع، “تختلف طقوس الاحتفاء بالموت بين القبائل المتدينة من المسلمين والمسيحيين والروحانيين، ومفردات الطقس متباينة كذلك بين تراثيات الجبال المختلفة عن بعضها عبر القرون، ويختلف من قبيلة إلى أخرى، فعند قبائل الميري وهي من أكبر قبائل النوبة، حينما يتوفى لديهم شخص معروف وذو مكانة اجتماعية يتم إعلان الموت بواسطة الضرب على الطبول، وتجيء النساء وتصيغ مناحات (بكائيات) على شكل أغنيات، تُذكر فيها محاسن المتوفى ومناقبه وأن الشباب يجب أن يقتدوا به، وفي حال الوفاة يقتصر الاحتفال على الغناء ويكف الناس عن الرقص، ولكن يُستعاض عنه بحركات مُعينة بأن يقف أفراد عائلة المتوفى واحداً تلو الآخر للحديث عن المتوفى”. وأضاف أن “النوبة المسلمين والمسيحيين يدفنون المتوفى على طريقتهم، أما الروحانيون فإن بعض القبائل التي تنتمي لمجموعة النيمانج التي تُعد من أكبر قبائل جبال النوبة عدداً وانتشاراً، وتقع شمال مدينة الدلنج ويتحدثون لغة تُسمى (أمادواوادا)، فالروحانيون منهم يدفنون المتوفى عمودياً في أحد أركان المنزل الرئيسة ومعه كل معداته الزراعية وغيرها، وبعض القبائل تغسل المتوفى بالماء الدافئ وبعضها تدفنه من دون غُسل في حفرة عميقة كالبئر، وقد تكون لبعض الأسر مقبرة خاصة يُدفن فيها الميت بعد وضع متعلقاته الشخصية معه، وهي أشبه بما كان يقوم به الفراعنة.
ويقوم الأهل بذبح غنم أو بقر وتقديم رؤوسها في الجنازة، وعند وفاة الخال الذي يكتسب أهمية تفوق مرتبة الأب يتم تقسيم أسلحته بين أبناء شقيقاته، ويتوجب على هؤلاء أن يقدموا رؤوس الحيوانات التي تُذبح في الجنازة، ويدفن الرجال والنساء مع أقربائهم من ناحية الأم في مقابر أمومية.
زيارة الأرواح
ومن المجموعات الإثنية المهمة في جبال النوبة مجموعة “الأجانق”، وهي إحدى المجموعات العشر المكونة لقبائل جبال النوبة، أوضح كوكو أن “مراسم الدفن تتم بأن يُوضع المتوفى في فناء الدار، وتُدخل أبقاره إلى حيث يرقد، فيقوم أحد أفراد عائلته بطعن واحدة، ليتبعه بقية أفراد العائلة بطعن بقية الأبقار، ثم يُحمل إلى الدفن”.
ويتابع، “يستمر سِبر الموت 40 يوماً عند بعض القبائل، وتُقام الذكرى السنوية للمتوفي باحتفال تُذبح فيه الذبائح والأغاني الحزينة، ويؤمن “الأجانق” بالحياة بعد الموت، فيربطون مناسباتهم السعيدة بالموت، وذلك لاعتقادهم أن أرواح الموتى تزورهم، فيقومون بقيادة الكجور بإقامة طقوس خاصة لإرضاء تلك الأرواح وطلب بركتها ومساعدتها في مواسم الزراعة والحصاد وغيرها”.
وليس “الأجانق” وحدهم من يؤمن بعودة الموتى، إذ بيّن كوكو أن “مجموعة الفندا يُدفن المتوفى لديها بأفضل ما لديه من ملابس، لاعتقادها بأنه يُبعث بها، فالمرأة تُدفن بزيها التقليدي والرجل بلباسه المصنوع من جلد النمر. وتُدفن معه معداته في حفرة عميقة مُزدوجة تتسع لأفراد عدة، وتُستخدم المقبرة مرة أخرى بعد عشر سنوات، إذ يُزاح الرفاة جانباً وتوضع الجثة الجديدة مكانها. ويُقام احتفال خاص بعد مرور 40 يوماً على الوفاة، ويتكرر كل خمس سنوات لحماية أهل المتوفى من أن يعود إليهم في شكل روح شريرة. وتكون طقوس الحفل بقيادة الكجور الذي يقرأ بعض النصوص بلغة القبيلة على إناء مملوء ماء ثم يدلق على الأرض، وبعد ذلك يحمل مساعدو الكجور الطعام والشراب إلى أحد الجبال حيث يعتقدون أن روح المتوفى توجد هناك متجسدة في ثعبان ضخم على شكل آدمي، ويتناول من الذبائح الخاصة بهذا الاحتفال والخمر، وبعده يتناول الكجور ثم ينزلون من الجبل لينخرط الجميع في الرقص والغناء وتناول الطعام والخمر”.
حال عبور
توضح أستاذة علم الاجتماع في جامعة الخرطوم، ابتسام ساتي، أن “للموت علاقة بنسق المعتقدات وبالحياة الروحية عند قبائل جبال النوبة، خصوصاً اعتقادها بوجود حياة بعده، ولذلك فهو يحوز على مراسم وطقوس خاصة، ويعد الاهتمام به جزءاً من الاهتمام بالحياة الروحية التي تشكل جزءاً مهماً في حياتهم”. وتضيف، “الرقص يُمارس في مناسبات كثيرة ومختلفة بما في ذلك الموت، الذي له رقصة خاصة هي بمثابة وداع للميت ونوع من السبر في بعض قبائل النوبة التي تعتقد أنه يحمي الأسرة من تلبّس روح الميت لأحد أفرادها، لاعتقادها كذلك في أن روح الميت تظل موجودة بينهم لفترة طويلة”.
وتقول ساتي، “الموت عند قبائل النوبة ليس حادثة فردية، وإنما مناسبة اجتماعية تهم الجماعة وربما يكون ذلك دليلاً على تماسكها وإثبات وحدتها، وتجديد للعلاقات الاجتماعية، وهذه وظيفة مهمة في هذه المجتمعات التي تقوم علاقاتها على مفهوم المشاركة في الأفراح كما في الاحتفاء بالموت”.
وتؤكد أن “طقوس الموت ومراسمه تحمل في معظم الأحيان روح الجماعة وترابطها، ويجيء هذا في سياق اهتمام المجتمعات السودانية بالموت والموتى، مثلما هو عند النوبيين (نوبة الشمال) الذين يحتفلون بيوم الموتى، وربما يكون ذلك ناتجاً من تأثرهم بالحضارة الفرعونية القديمة التي تهتم بالحياة بعد الموت اهتماماً كبيراً، باعتباره حال عبور لحياة أبدية لا ألم فيها بل خلود”.