آراء

جنوب السُّودان.. ماضيه وصيرورته (17 من 21)

الدكتور عمر مصطفى شركيان
shurkiano@yahoo.co.uk

في واقع الأمر سيعلم أهل السُّودان أنَّ كوارثهم السياسيَّة ما هي إلا تجارب معادة، وبصورة أكثر تراجيديَّة. فبعد سقوط نظام مايو في نيسان (أبريل) 1985م صار وزير دفاع نميري الفريق أول عبد الرحمن محمد الحسن سوار الدهب رئيساً للمجلس العسكري الانتقالي، وبات الدكتور الجزولي دفع الله رئيساً للوزراء في الجناح المدني للحكومة الانتقاليَّة، وتبيَّن لاحقاً أنَّ الرجلين ينتميان إلى الحركة الإسلاميَّة السُّودانيَّة، مما ساعد الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة، التي كانت شريكة في حكومة نميري المايويَّة، حتى الرمق الأخير من النظام، في الاحتفاظ بإمبراطوريتها الاقتصاديَّة التي استحوذتها إبَّان وجودها في السلطة، والنفوذ السياسي الذي مكنها في الاستثمار في مناخ الحريَّات الديمقراطيَّة التي كفلتها الانتفاضة الشعبيَّة في نيسان (أبريل) 1985م، حتى استقوت وقضت على الحكومة الديمقراطيَّة المنتخبة في 30 حزيران (يونيو) 1989م. كذلك المجلس العسكري الانتقالي برئاسة الفريق أول عبد الفتاح البرهان عبد الرحمن لم يكن شيئاً سوي اللجنة الأمنيَّة لحكومة البشير التي انتهت اسماً، وظلتَّ قائمة حاكمة عمليَّاً، وإنَّ الشواهد على ذلك لكثيرة، ولا يحتاج الأمر منا لكثير بيان أو تبيين.
خيانة النخب للشعوب واللهاث وراء مصالحها الشخصيَّة لم تكن بالأمر الجديد في شيء. وفي هذا الشأن أسهب الدكتور الراحل منصور خالد (1931-2020م) في مجلدين بعنوان “النخبة السُّودانيَّة وإدمان الفشل” العام 1993م في تعرية تصرُّفات علية الأقوام في السُّودان، طائفيين كانوا من رجال الدين أم ساسة، وكيف أودت انحداراتهم نحو الحضيض إلى إبقاء السُّودان على ما هو فيه اليوم، ودورهم في تعضيد الطواغيت والأنظمة القمعيَّة سواءً أكان ذلك في عهد الفريق إبراهيم عبود (1958-1964م)، أم المشير جعفر محمد نميري (1969-1985م)، أم المشير عمر حسن أحمد البشير (1989-2019م). لا نندهش، إذاً، إذا علمنا أنَّ ستيفين ملينوفسكي قد وثَّق في كتابه “النازيُّون والنبلاء” الصادر العام 2021م كيف ساندت الأسر الملكيَّة والأرستقراطيين ومن شايعهم في ألمانيا نظام أدولف هتلر الإجرامي الوحشي. فبعد أن أخفقوا في تأسيس الجمهوريَّة قام نبلاء ألمانيا، وحشدوا أنفسهم لتدمير جمهوريَّة الفايمار، وكانت النتائج – ولا مرية في أنَّها كانت مأسويَّة – وضع هتلر على رأس السلطة في ألمانيا. بيد أنَّ زواج المتعة ذاك لم ينته بالذي هو أحسن كما أراد له مهندسوه، وذلك حين انقلبت الأوضاع على أعقابها في مؤامرة ستوفينبورغ العام 1944م.
في سبيل فهم ظاهرة التعاطي مع النازيَّة وصنوها الفاشيَّة، علينا أن ندرك كيف احتضنت الطبقات الأوروبيَّة العقاريَّة الفاشية على أنَّها مبتذلة، لكنها فعَّالة. كان الزعيم البريطاني ونستون تشرشل يصفق لموسوليني بإعجاب، حتى – على الأقل – في منتصف الثلاثينيَّات، وكانت العواطف البرجوازيَّة أكثر عداءً ضد الثورة البلشفيَّة بالقياس إلى الديكتاتوريَّة. والبرجوازيَّة كلمة فرنسيَّة، معناها الطبقة الوسطى من مالكي وسائل الإنتاج، وقد استعملت هذه العبارة لأوَّل مرَّة أثناء الثورة الفرنسيَّة العام 1789م. تجدر الإشارة إلى أنَّ الفاشية تدعو إلى حكومة ترأسها صفوة من رجالٍ أخيار، وتنبذ الساسة، وتحث على حب الوطن، وذلك في الحين الذي فيه تمجِّد العنف كقوَّة للتطهير السياسي. إنَّ الفاشي عديم الأفكار وهو يحمل سلاحاً قادراً على هزيمة عشرة من معارضي الفاشية الذين يحملون أفكاراً، لكنهم غير مسلحين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى