حكومة الصَّادق المهدي (1986-1989م).. الديمقراطيَّة الشوهاء والممارسة البلهاء 3 من 9
الدكتور عمر مصطفى شركيان
في نظر حزب الأمَّة وقادة الأنصار فإنَّ أتباع المهدي الدارفوريين يجيدون حمل الحراب والخناجر في ميليشيا المهدي، وإنَّهم ليصوتون إلى حزب الأمَّة في صناديق الاقتراع، ثمَّ إنَّهم ليعملون اكتفاءً بما يسد رمقهم من الطعام والشراب في حقول ومزارع آل المهدي، لكن هذا كله لا يعطيهم حق التمتع بنصيب نزيه في ميزانيَّة الحكومة التي طالما كانوا هم السبب في فوز مرشحيها في الانتخابات، وذلك بمشاركتهم الناجزة.
لعلَّ حزب الأمَّة هو مؤسِّس السياسة العنصريَّة في السُّودان بلا منازع، حتى أمسكت مقود الرسن منه الحركة الإسلاميَّة السُّودانيَّة. تلك السياسة هي التي أقعدت البلاد، ورمت بها إلى هذا الدرك الأسفل الذي نحن فيه رازحون. وقد يكثر الحديث في هذا الإطار المأسوي. أفلم يكن أبناء المهدي هم الذين أتوا بمصطلح أولاد البلد، أو أولاد العرب، أو أولاد البحر، ضد أولاد الغرب في صراعهم السياسي مع الخليفة عبد الله التعايشي في أم درمان! إذ أرادوا أن تكون السلطة ضيعة وراثيَّة بينهم دون وجه حق. أولاد العرب مصطلح عنصري سياسي يعني الصفوة العربيَّة الخالصة. كان هذا المفهوم هو انطلاق صفارة البداية الأكروباتيَّة في المفردات اللغويَّة الإثنيَّة، التي ساهمت لاحقاً بشكل أبشع في اختلاق ماكينة أيديولوجيَّة مميتة في السُّودان، والزجاج المكسور لا يعود كما كان. حين توحَّد حزب الأمَّة بين جناحي الصَّادق المهدي وبين جناح عمه الإمام الهادي المهدي في الستينيَّات من القرن العشرين، كان شعار الوحدة “السُّودان بلدنا، ونحن أسياده”، أي غلو عنصري أكثر من هذا! فحين يكون هناك أسياد فهذا يعني – بالطبع – أنَّ هناك ثمة عبيداً، وترجيحاً هنا هم يعنون سكان البلاد الأصلانيين، وذلك حتى نسمِّي الأشياء بأسمائها!
فأولاد البلد هؤلاء كانوا – مبدئيَّاً – يرون في أنفسهم الأحق بالحكم، ليس فقط لبعض الأسباب الموضوعيَّة التي ذكرها المؤرخ الدكتور محمد سعيد القدَّال عن التأهيل، ولكن لأنَّ بعضهم كان ينطلق في الأساس من موقف استعلائي. فهم – والحديث هنا للدكتور أبكر آدم إسماعيل – أحفاد “العبَّاس”؛ فكيف يحكمهم “عب”! وهنا لا بد من الوقوف على محنة البقارة. فبرغم من عروبتهم، التي هي – على أيَّة حال – ليست أقل عروبة ممن يسميهم الإخوة ب”الشماليين”، إلا أنَّ هؤلاء الأخيرين لا يعترفون للبقارة بعروبتهم، التي إذا سلمنا بمنهج الشماليين الأنسابوي، تستند إلى منظورهم لتاريخهم الأقل تعرُّضاً للشك فيه ولغتهم، وحتى في سلالمهم الموسيقيَّة، بل وفي نقطة مهمة هي عدم ادِّعائهم لأنساب عُلويَّة عربيَّة، والإمساك بجهينة.
ظهرت هذه العنصريَّة الحقود في تعامل حكومتي الصَّادق المهدي الأولى (1966-1967م) والثانية (1986-1989م) مع الصراعات المسلَّحة في الحرب الأهليَّة في جنوب السُّودان وجبال النُّوبة وإقليم النيل الأزرق (الفونج الجديد)، ومذبحة الضعين في آذار (مارس) 1987م، والصراع الدموي في دارفور في الفترة ما بين (1987-1989م). الجدير بالذكر أنَّ في خطابه في الأسبوع الأول من حزيران (يونيو) 1986م تعهَّد رئيس الوزراء المنتخب السيِّد الصَّادق المهدي – فيما تعهَّد ووعد – بتحقيق ثلاثة مفاجآت: أولاً: إبطال مفعول الفتنة الدينيَّة التي زرعها الطاغية (الرئيس المخلوع جعفر محمد نميري)، وأعاق بها حركة التقدُّم الاجتماعي، وذلك عن طريق تحقيق رغبة الأغلبيَّة المسلمة في تحكيم الإسلام في حياتها الخاصة والعامة، ووفاق مع الآخرين. ثانياً، إبطال مفعول الفتنة العرقيَّة المسنودة من الخارج.”
عن إبطال مفعول الفتنة الدينيَّة كان يقصد الصَّادق إلغاء قوانين أيلول (سبتمبر) 1983م، تلك القوانين التي قال عنها الصَّادق ذاته قبلئذٍ إبَّان الحملة الانتخابيَّة بأنَّها لا تساوي المداد الذي كُتِب بها، لكنه لم يجرؤ على إلغائها بعد أن انتخب رئيساً للوزراء، وفي ذلك إما خوفاً من الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة التي هدَّدت بإعلان الجهاد على من يجرؤ على إلغائها، أو أنَّه ذاته كان مؤمناً بهذه القوانين حسب أيديولوجيَّته الإسلاميَّة التي لا تختلف كثيراً أو قليلاً عن الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة (الحركة الإسلاميَّة السُّودانيَّة). تأسيساً على ذلك، لم يوف الصَّادق بوعده – وكان وعد الله مسؤولاً – بإبطال مفعول الفتنة الدينيَّة، الذي كان يتطلَّب إلغاء هذه القوانين التي أذلَّت الشعب السُّوداني، وفرَّقت أهله، وباتت أسيافاً على رقاب معارضي النظام السياسيين. بل، وفي واقع الأمر، فإنَّ تأكيد الصَّادق على “تحقيق رغبة الأغلبيَّة المسلمة في تحكيم الإسلام في حياتها الخاصة والعامة، ووفاق مع الآخرين”، يعني جعل الإسلام ليس عقيدة يمارسها النَّاس في حياتهم الخاصة فحسب، بل مصدراً للتشريع في الحياة العامة؛ وهنا يكمن مربط الفرس في مسألة تديين السياسة، التي يتناحر حولها أهل السُّودان منذ فترة ليست بقصيرة. إنَّ استغلال الدِّين سبيلاً إلى التفرقة والاستعباد والاستبعاد والتسخير، وكوسيلة للوصول إلى المطامع والغايات الخاصة لم يعد لُعبة خافية على العقول كما كانت قبلاً. بيد أنَّ وصف القوميات السُّودانيَّة، أي تلك المجتمعات أو الكيانات السُّودانيَّة التي لا تدين بالإسلام، ب”الآخرين”، هو في حد ذاته إساءة ومنقصة لحقوقهم الدستوريَّة والإنسانيَّة، وبخاصة حين تمثِّل هذه القوميَّات شعوب البلاد الأصلاء.
أما “الفتنة العرقيَّة المسنودة من الخارج”، والتي أشار إليها الصَّادق المهدي تلميحاً، فقد قصد بها الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان، التي كانت تخوض نضالاً في جنوب السُّودان ومناطق أخرى من القطر، وقد وصفها الصَّادق مراراً بأنها تنفِّذ أجندة دولة أجنبيَّة قاصداً إثيوبيا، ناسياً مشكل السُّودان السياسي الذي تقبع بؤرته في الخرطوم، وليس في الخارج. وهل نسي أو تناسى الصَّادق حين كان شريكاً فاعلاً في الجبهة الوطنيَّة المعارضة لنظام الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري، وكان قد قاد حركة عسكريَّة منطلقة من الأراضي الليبيَّة، وهاجمت الخرطوم في 2 تموز (يوليو) 1976م؟ أفلم يكن ينفِّذ أجندة دولة أجنبيَّة! لعلَّ كثراً من النَّاس يعبرون الجسر، ثمَّ ينسونه، وإنَّ الصَّادق من طائفة هؤلاء النَّاس الذين عبروا الجسر ثمَّ نسوه. الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان كانت متواجدة داخل الأراضي السُّودانيَّة، وتخوض حرباً تحريريَّة ضد الظلم السياسي والاجتماعي، ومن أجل العدالة والمساواة، وتقاسم الثروة القوميَّة. تلك هي الحرب الأهليَّة التي قال عنها الصَّادق إنَّ على الدكتور جون قرنق أن يوقف هذه الحرب، وإذا لم يقم بوقفها فإنَّ أهله هم الذين يموتون! إزاء تصريح الصَّادق البئيس ذاك للإعلام، استنكر رئيس حزب المؤتمر السُّوداني الإفريقي ووزير العمل في حكومته الدكتور وولتر كونيجوك هذا القول غير المسؤول، ومن ثمَّ قدَّم استقالته من الحكومة. لعلَّ بهذا التصريح الانقسامي صنَّف السيِّد رئيس الوزراء الصَّادق المهدي الشعب السُّوداني إلى فئتين: فئة تضم أهله، وهم أولئك الذين ينعمون بالسَّلام والطمأنينة، وينامون قرين العين هانيها، والفئة الأخرى من الشعب السُّوداني، التي عمَّها البوس والشقاء، وهي الفئة التي لم تكن تهمُّ رئيس الوزراء بشيء في أن تموت أو تحيا، ثمَّ لم يكد يحرِّك الأمر لديه ساكناً.
للمقال بقيَّة،،،